[الفرح والسرور بزوال أهل
الفتن والشرور]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله
رب العالمين إله الأولين والآخرين، و هادي
عباده المؤمنين على جنات النعيم، وصلى الله وسلم على المبعوث رحمة للعالمين خليل
رب العالمين وسيد الخلق أجمعين، وعلى آله وصحبه الهداة المهتدين ومن تبعهم بإحسان
إلى يوم بعث الأولين والآخرين.
أما بعد:
فإن زوال
الفتن وأهلها عن المؤمنين، والشر عن عباد الله الصالحين لهو نعمةٌ عظيمةٌ جليلةٌ؛
يُسر بها الصالحون، وينعم بها المتقون، وينشرح بها المهمومون، ويفرح بها المحزونون،
وقد جاءت الأدلة من الوحيين الكتاب والسنة، وكذلك أفعال السلف الصالحين-رضوان الله
عليهم أجمعين- الدالة على الفرح بزوال أهل الشر والفتن من الكافرين والمنافقين
والزنادقة والمبتدعين والظالمين والجبابرة المفسدين، وأن الفرح بذلك ليس مخالفًا
للوحيين ولا طريقة السلف الصالحين، أو أمر نكير، أو هو غلو، أو تطرف أبد والله ،
وهاهم سلف هذه الأمة كلما زال فاتن أو صحب شر وهوى فرحوا بذلك، ولا يُحزن على
ذهابهم وهلكتهم بعد الذي عملوه في دين الله، وفي عباد الله الصالحين، كما سيأتي إن
شاء الله تعالى .
وإني ذاكر بحول الله وقدرته
بعض الأدلة والأمثلة على الفرح بزوال الشر وأهله مما ييسر الله الوقوف عليه وجمعه لعل الله ينفع
به كاتبه وقارئه.
قال الله
تعالى : {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى
الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لله
الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ
الله يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) }
[الروم: 1 - 5].
أقول : في
هذه الآية فرح المؤمنين بهزيمة الفرس وانتصار الروم عليهم، وما حصل لهم من ذلة،
ومن كسر شوكتهم وإهانتهم على يد من أراد الله ذلك.
روى
الإمام الترمذي رحمه الله عَنْ نِيَارِ
بْنِ مُكْرَمٍ الأَسْلَمِيِّ، قَالَ: « لَمَّا نَزَلَتْ {الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي
أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ}
[الروم: 2] فَكَانَتْ فَارِسُ يَوْمَ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ قَاهِرِينَ لِلرُّومِ،
وَكَانَ المُسْلِمُونَ يُحِبُّونَ ظُهُورَ الرُّومِ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ وَإِيَّاهُمْ
أَهْلُ كِتَابٍ، وَفِي ذَلِكَ قَوْلُ الله تَعَالَى: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ
بِنَصْرِ الله يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ العَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الروم: 4] فَكَانَتْ
قُرَيْشٌ تُحِبُّ ظُهُورَ فَارِسَ لِأَنَّهُمْ وَإِيَّاهُمْ لَيْسُوا بِأَهْلِ كِتَابٍ
وَلَا إِيمَانٍ بِبَعْثٍ، فَلَمَّا أَنْزَلَ الله تَعَالَى هَذِهِ الآيَةَ، خَرَجَ
أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ يَصِيحُ فِي نَوَاحِي مَكَّةَ {الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي
أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ [ص:345] فِي بِضْعِ
سِنِينَ} [الروم: 1] قَالَ نَاسٌ مِنْ قُرَيْشٍ لِأَبِي بَكْرٍ: فَذَلِكَ بَيْنَنَا
وَبَيْنَكُمْ، زَعَمَ صَاحِبُكَ أَنَّ الرُّومَ سَتَغْلِبُ فَارِسَ فِي بِضْعِ سِنِينَ،
أَفَلَا نُرَاهِنُكَ عَلَى ذَلِكَ، قَالَ: بَلَى، وَذَلِكَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الرِّهَانِ،
فَارْتَهَنَ أَبُو بَكْرٍ وَالمُشْرِكُونَ وَتَوَاضَعُوا الرِّهَانَ، وَقَالُوا لِأَبِي
بَكْرٍ: كَمْ تَجْعَلُ البِضْعُ ثَلَاثُ سِنِينَ إِلَى تِسْعِ سِنِينَ، فَسَمِّ بَيْنَنَا
وَبَيْنَكَ وَسَطًا تَنْتَهِي إِلَيْهِ، قَالَ: فَسَمَّوْا بَيْنَهُمْ سِتَّ سِنِينَ،
قَالَ: فَمَضَتِ السِّتُّ سِنِينَ قَبْلَ أَنْ يَظْهَرُوا، فَأَخَذَ المُشْرِكُونَ
رَهْنَ أَبِي بَكْرٍ، فَلَمَّا دَخَلَتِ السَّنَةُ السَّابِعَةُ ظَهَرَتِ الرُّومُ
عَلَى فَارِسَ، فَعَابَ المُسْلِمُونَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ تَسْمِيَةَ سِتِّ سِنِينَ،
لِأَنَّ الله تَعَالَى قَالَ فِي بِضْعِ سِنِينَ، قَالَ: وَأَسْلَمَ عِنْدَ ذَلِكَ
نَاسٌ كَثِيرٌ ». قال الإمام الألباني رحمه الله حسن
ورواه
الإمام أحمد في «مسنده» (4 / 491) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
رضي الله عنهما ، قَالَ: كَانَ الْمُسْلِمُونَ يُحِبُّونَ أَنْ تَظْهَرَ الرُّومُ عَلَى
فَارِسَ، لِأَنَّهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يُحِبُّونَ أَنْ تَظْهَرَ
فَارِسُ عَلَى الرُّومِ، لِأَنَّهُمْ أَهْلُ أَوْثَانٍ، فَذَكَرَ ذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ
لِأَبِي بَكْرٍ، فَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ ذَلِكَ لِرَسُولِ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « أَمَا إِنَّهُمْ
سَيَهْزِمُونَ » فَذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ لَهُمْ، فَقَالُوا: اجْعَلْ بَيْنَنَا
وَبَيْنَكَ أَجَلًا، فَإِنْ ظَهَرُوا، كَانَ لَكَ كَذَا وَكَذَا، وَإِنْ ظَهَرْنَا،
كَانَ لَنَا كَذَا وَكَذَا. فَجَعَلَ بَيْنَهُمْ أَجَلًا خَمْسَ سِنِينَ، فَلَمْ يَظْهَرُوا،
فَذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ:
" أَلا جَعَلْتَهُ - أُرَاهُ قَالَ: - دُونَ الْعَشْرِ " - قَالَ: وَقَالَ
سَعِيدٌ: الْبِضْعُ مَا دُونَ الْعَشْرِ - قَالَ: فَظَهَرَتِ الرُّومُ بَعْدَ ذَلِكَ،
فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ
مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم: 2] قَالَ: فَغُلِبَتِ
الرُّومُ ثُمَّ غَلَبَتْ بَعْدُ، قَالَ: {لله الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ
وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ الله} [الروم: 4] قَالَ: يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ
بِنَصْرِ الله ».
قال
الإمام البغوي رحمه الله في «تفسيره» (3/ 571):« {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ الله}، الرُّومَ عَلَى فَارِسَ، قَالَ السُّدِّيُّ: فَرِحَ
النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِظُهُورِهِمْ عَلَى الْمُشْرِكِينَ
يَوْمَ بَدْرٍ وَظُهُورِ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى أَهْلِ الشِّرْكِ، يَنْصُرُ مَنْ
يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ، الْغَالِبُ، الرَّحِيمُ، بِالْمُؤْمِنِينَ. وَعْدَ الله،
نُصْبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ أَيْ وَعَدَ الله وَعْدًا بِظُهُورِ الرُّومِ عَلَى فَارِسَ،
لَا يُخْلِفُ الله وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ »اهــ
وقال العلامة الشوكاني في « فتح القدير» (4/ 247):«وَمَعْنَى
الْآيَةِ: مِنْ مُتَقَدَّمٍ وَمِنْ مُتَأَخَّرٍ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ
بِنَصْرِ الله أَيْ: يَوْمَ أَنْ تَغْلِبَ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ فِي بِضْعِ سِنِينَ
يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ الله لِلرُّومِ لِكَوْنِهِمْ: أَهْلَ كِتَابٍ كَمَا
أَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَهْلُ كِتَابٍ، بِخِلَافِ فَارِسَ فَإِنَّهُ لَا كِتَابَ لَهُمْ،
وَلِهَذَا سُرَّ الْمُشْرِكُونَ بِنَصْرِهِمْ عَلَى الرُّومِ، وَقِيلَ: نَصْرُ الله
هُوَ إِظْهَارُ صِدْقِ الْمُؤْمِنِينَ، فِيمَا أَخْبَرُوا بِهِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ
غَلَبَةِ الرُّومِ عَلَى فَارِسَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى» اهــ
وقال
الشيخ ابن باز رحمه الله في « مجموع فتاواه »(8/ 294):« وقد فرح المسلمون
بذلك؛ لأن الروم أقرب إلى المسلمين من الفرس؛ لأنهم أهل كتاب، والفرس عباد أوثان؛ ولهذا
قال عز وجل: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ} {بِنَصْرِ الله} الآية». اهــ
وقال الله
تعالى : {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا
إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ الله بِعَذَابٍ
مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ} [التوبة:
52].
أقول :إذا
كنتم تتربصون بنا الزوال والهلكة، فنحن متربصون هلكتكم وزوالكم، وعذاب الله لكم في
الدنيا والآخرة، وهذا يفرحنا.
قال الإمام
ابن جرير رحمه الله في «تفسيره» (11 / 496) :«يَقُولُ
تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ يَا
مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ وَصَفْتُ لَكَ صِفَتَهُمْ وَبَيَّنْتُ
لَكَ أَمْرَهُمْ: هَلْ تَنْتَظِرُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْخَلَّتَيْنِ اللَّتَيْنِ
هُمَا أَحْسَنُ مِنْ غَيْرِهِمَا، إِمَّا ظَفَرًا بِالْعَدُوِّ وَفَتْحًا لَنَا بِغَلَبَتْنَاهُمْ،
فَفِيهَا الْأَجْرُ وَالْغَنِيمَةُ وَالسَّلَامَةُ، وَإِمَّا قَتْلًا مِنْ عَدُوِّنَا
لَنَا، فَفِيهِ الشَّهَادَةُ وَالْفَوْزُ بِالْجَنَّةِ وَالنَّجَاةُ مِنَ النَّارِ،
وَكِلْتَاهُمَا مِمَّا يُحِبُّ، وَلَا يَكْرَهُ، وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ
يُصِيبَكُمُ الله بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ. يَقُولُ: وَنَحْنُ نَنْتَظِرُ بِكُمْ أَنْ
يُصِيبَكُمُ الله بِعُقُوبَةٍ مِنْ عِنْدِهِ عَاجِلَةً تُهْلِكُكُمْ، أَوْ بِأَيْدِينَا
فَنَقْتُلُكُمْ. {فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ} [التوبة: 52] يَقُولُ:
فَانْتَظِرُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُنْتَظِرُونَ مَا الله فَاعِلٌ بِنَا، وَمَا إِلَيْهِ
صَائِرٌ أَمْرُ كُلِّ فَرِيقٍ مِنَّا وَمِنْكُم وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ
قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ» اهــ
وقال
الماوردي رحمه الله في «تفسيره» (2 / 371) :«
{وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ الله بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ} يحتمل
وجهين: أحدهما: عذاب الاستئصال في الدنيا. والثاني: عقاب العصيان في الآخرة. {أَوْ
بِأَيْدِينَا} يعني بقتل الكافر عند الظفر والمنافق مع الإذن فيه» اهــ.
وقال
الإمام القرطبي رحمه الله في «تفسير
ه» (8 / 160) :«{وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ
بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ الله بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ}
أَيْ عُقُوبَةٍ تُهْلِكُكُمْ كَمَا أَصَابَ الْأُمَمَ الْخَالِيَةَ مِنْ قَبْلِكُمْ.
(أَوْ بِأَيْدِينا) أَيْ يُؤْذَنُ لَنَا فِي قِتَالِكُمْ. (فَتَرَبَّصُوا) تَهْدِيدٌ
وَوَعِيدٌ. أَيِ انْتَظِرُوا مَوَاعِدَ الشيطان إنا منتظرون مواعد الله» اهــ
وقال الله
تعالى : {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ
فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ الله يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ
نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ الله عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } [فاطر: 8].
أقول: من
كان هذا حاله وطريقه، أنه سائر على الهوى، ويرى نفسه وعمله الفاسد المخالف للشرع
عملا زينًا فلا تتحسر عليه وعلى هلكته وحاله، ومثله لا يحزن عليه، فإن هذا بسبب ما
قدمته يداه، وبسبب ما صنعه واقترفه.
قال
الإمام الرازي في «تفسيره» (26/ 224):«{أَفَمَنْ
زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ الله يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي
مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ الله عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ} يَعْنِي لَيْسَ مَنْ عَمِلَ سَيِّئًا كَالَّذِي عَمِلَ
صَالِحًا، كَمَا قَالَ بَعْدَ هَذَا بِآيَاتٍ {وَما
يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ} [فاطر: 19] وَلَهُ تَعَلُّقٌ بِمَا قَبْلَهُ وَذَلِكَ
مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ حَالَ الْمُسِيءِ الْكَافِرِ وَالْمُحْسِنِ
الْمُؤْمِنِ، وَمَا مِنْ أَحَدٍ يَعْتَرِفُ بِأَنَّهُ يَعْمَلُ سَيِّئًا إِلَّا قَلِيلٌ،
فَكَانَ الْكَافِرُ يَقُولُ الَّذِي لَهُ الْعَذَابُ الشَّدِيدُ هُوَ الَّذِي يَتْبَعُ
الشَّيْطَانَ وَهُوَ مُحَمَّدٌ وَقَوْمُهُ الَّذِينَ اسْتَهْوَتْهُمُ الْجِنُّ فَاتَّبَعُوهَا،
وَالَّذِي لَهُ الْأَجْرُ الْعَظِيمُ نَحْنُ الَّذِينَ دُمْنَا عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ
آبَاؤُنَا فَقَالَ الله تَعَالَى لَسْتُمْ أَنْتُمْ بِذَلِكَ فَإِنَّ الْمُحْسِنَ غير،
ومن زين له العمل السيء فَرَآهُ حَسَنًا غَيْرٌ، بَلِ الَّذِينَ زُيِّنَ لَهُمُ السيء
دُونَ مَنْ أَسَاءَ وَعَلِمَ أَنَّهُ مُسِيءٌ فَإِنَّ الْجَاهِلَ الَّذِي يَعْلَمُ
جَهْلَهُ وَالْمُسِيءَ الَّذِي يَعْلَمُ سُوءَ عَمَلِهِ يَرْجِعُ وَيَتُوبُ وَالَّذِي
لَا يَعْلَمُ يُصِرُّ عَلَى الذُّنُوبِ وَالْمُسِيءُ الْعَالِمُ لَهُ صِفَةُ ذَمٍّ
بِالْإِسَاءَةِ وَصِفَةُ مَدْحٍ بِالْعِلْمِ. وَالْمُسِيءُ الَّذِي يَرَى الْإِسَاءَةَ
إِحْسَانًا لَهُ صِفَتَا ذَمٍّ الْإِسَاءَةُ وَالْجَهْلُ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ الْكُلَّ
بِمَشِيئَةِ الله، وَقَالَ: فَإِنَّ الله يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ
وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّاسَ أَشْخَاصُهُمْ مُتَسَاوِيَةٌ فِي الْحَقِيقَةِ وَالْإِسَاءَةُ
وَالْإِحْسَانُ، وَالسَّيِّئَةُ وَالْحَسَنَةُ يَمْتَازُ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ فَإِذَا
عَرَفَهَا الْبَعْضُ دُونَ الْبَعْضِ لَا يَكُونُ ذَلِكَ بِاسْتِقْلَالٍ مِنْهُمْ،
فَلَا بُدَّ مِنَ الِاسْتِنَادِ إِلَى إِرَادَةِ الله.
ثُمَّ سلى رسول
الله صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ حَيْثُ حَزِنَ مِنْ إِصْرَارِهِمْ بَعْدَ إِتْيَانِهِ
بِكُلِّ آيَةٍ ظَاهِرَةٍ وَحُجَّةٍ بَاهِرَةٍ فَقَالَ:{ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ
}كَمَا قَالَ تَعَالَى:{ فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ} [الْكَهْفِ: 6] .
ثُمَّ بَيَّنَ
أَنَّ حُزْنَهُ إِنْ كَانَ لِمَا بِهِمْ مِنَ الضَّلَالِ فَالله عَالِمٌ بِهِمْ وَبِمَا
يَصْنَعُونَ لَوْ أَرَادَ إِيمَانَهُمْ وَإِحْسَانَهُمْ لَصَدَّهُمْ عَنِ الضَّلَالِ
وَرَدَّهُمْ عَنِ الْإِضْلَالِ، وَإِنْ كَانَ لِمَا بِهِ منهم من الإيذاء فالله عالم
بفعلهم يجازيهم على ما يصنعون». اهــ
وقال
الحافظ ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» (5/ 137):«يَقُولُ
تَعَالَى مُسَلِّيًا رَسُولَهُ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حُزْنِهِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، لِتَرْكِهِمُ
الْإِيمَانَ وَبُعْدِهِمْ عَنْهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ
حَسَرَاتٍ} [فَاطِرٍ:8] ، وَقَالَ {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} [النَّحْلِ:127] ، وَقَالَ
{لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشُّعَرَاءِ:3] بَاخِعٌ:
أَيْ مَهْلِكٌ نَفْسَكَ بِحُزْنِكَ عَلَيْهِمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ
نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ} يَعْنِي: الْقُرْآنَ
{أَسَفًا} يَقُولُ: لَا تُهْلِكْ نَفْسَكَ أَسَفًا.
قَالَ قَتَادَةُ:
قَاتِل نَفْسَكَ غَضَبًا وَحُزْنًا عَلَيْهِمْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: جَزَعًا. وَالْمَعْنَى
مُتَقَارِبٌ، أَيْ: لَا تَأْسَفْ عَلَيْهِمْ، بَلْ أَبْلِغْهُمْ رِسَالَةَ الله، فَمَنِ
اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ، وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا، فَلَا تَذْهَبْ
نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ ».اهــ
وقال
الحافظ ابن كثير رحمه الله في« تفسيره» (6/ 535):«{أَفَمَنْ
زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} يَعْنِي: كَالْكُفَّارِ وَالْفُجَّارِ،
يَعْمَلُونَ أَعْمَالًا سَيِّئَةً، وَهُمْ فِي ذَلِكَ يَعْتَقِدُونَ وَيُحِسُّونَ أَنَّهُمْ
يُحْسِنُونَ صُنْعًا، أَيْ: أَفَمَنْ كَانَ هَكَذَا قَدْ أَضَلَّهُ الله، أَلَكَ فِيهِ
حِيلَةٌ؟ لَا حِيلَةَ لَكَ فِيهِ، {فَإِنَّ الله يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ
يَشَاءُ} أَيْ: بِقَدَرِهِ كَانَ ذَلِكَ، {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ}
أَيْ: لَا تَأْسَفْ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ الله حَكِيمٌ فِي قَدَرِهِ، إِنَّمَا يُضِلُّ
مَنْ يُضِلُّ وَيَهْدِي مَنْ يَهْدِي ، لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحُجَّةِ الْبَالِغَةِ،
وَالْعِلْمِ التَّامِّ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {إِنَّ الله عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ}»
.اهــ
وقال
العلامة الشنقيطي رحمه الله في «أضواء البيان »(2/ 316):«قَوْلُهُ
تَعَالَى: {وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ}.الصَّحِيحُ فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ:
أَنَّ الله نَهَى نَبِيَّهُ - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْحُزْنِ
عَلَى الْكُفَّارِ إِذَا امْتَنَعُوا مِنْ قَبُولِ الْإِسْلَامِ.
وَيَدُلُّ لِذَلِكَ كَثْرَةُ وُرُودِ هَذَا الْمَعْنَى فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ.
كَقَوْلِهِ:{ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ
مِمَّا يَمْكُرُونَ} [16 \ 127] ، وَقَوْلِهِ: {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [35 \ 8] ، وَقَوْلِهِ: لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ
أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ، وَقَوْلِهِ: {فَلَعَلَّكَ
بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا
}[18 \ 6] ، وَقَوْلِهِ: {وَلَيَزِيدَنَّ
كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا
تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [5 \ 68] ،
إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَالْمَعْنَى:
قَدْ بَلَّغْتَ وَلَسْتَ مَسْئُولًا عَنْ شَقَاوَتِهِمْ إِذَا امْتَنَعُوا مِنَ الْإِيمَانِ،
فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ، فَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ
إِذَا كَانُوا أَشْقِيَاءَ». اهـــ
وقال الله
تعالى : { قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ
سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة:
26]
وقال الله
تعالى : {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا
التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ
كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا
تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [المائدة: 68].
أقول: من
رضي لنفسه طريق الغواية والشر، وعاند على ذلك، ولم يذعن للحق والهدى ودعاة الخير،
فهذا لا تيأس عليه ولا تحزن بهلاكه، فإنهم
قد جاءتهم البينات والحجج؛ فما ازدادوا إلا عتوًا ونفورًا ومحاربة للحق وأهله،
وكانت محاربتهم للحق وأهله من حسن أعمالهم التي يعتقدونها ويبذلون فيها كل وسعهم
وما يملكونه.
قال
الإمام الرازي في «تفسيره» (11/ 335):«الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: يُحْتَمَلُ
أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا قَالَ فِي دُعَائِهِ عَلَى الْقَوْمِ فَافْرُقْ
بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ [الْمَائِدَةِ: 25] لَمْ يَقْصِدْ بِدُعَائِهِ
هَذَا الْجِنْسَ مِنَ الْعَذَابِ، بَلْ أَخَفَّ مِنْهُ. فَلَمَّا أَخْبَرَهُ الله تَعَالَى
بِالتِّيهِ عَلِمَ أَنَّهُ يَحْزَنُ بِسَبَبِ ذَلِكَ فَعَزَّاهُ وَهَوَّنَ أَمْرَهُمْ
عَلَيْهِ، فَقَالَ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ قَالَ مُقَاتِلٌ: إِنَّ
مُوسَى لَمَّا دَعَا عَلَيْهِمْ أَخْبَرَهُ الله تَعَالَى بِأَحْوَالِ التِّيهِ، ثُمَّ
إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَخْبَرَ قَوْمَهُ بِذَلِكَ، فَقَالُوا لَهُ: لِمَ
دَعَوْتَ عَلَيْنَا وَنَدِمَ مُوسَى عَلَى مَا عمل، فأوحى الله تعالى إليه فَلا تَأْسَ
عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ خِطَابًا لِمُحَمَّدٍ
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ لَا تَحْزَنْ عَلَى قَوْمٍ لَمْ يَزَلْ شَأْنُهُمُ
الْمَعَاصِيَ وَمُخَالَفَةَ الرُّسُلِ والله أَعْلَمُ» اهــ.
وقال
الرازي رحمه الله أيضا (12/ 401)«ثُمَّ قَالَ
تَعَالَى: {فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ }وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: لَا تَأْسَفْ عَلَيْهِمْ
بِسَبَبِ زِيَادَةِ طُغْيَانِهِمْ وَكُفْرِهِمْ، فَإِنَّ ضَرَرَ ذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَيْهِمْ
لَا إِلَيْكَ وَلَا إِلَى الْمُؤْمِنِينَ. الثَّانِي: لَا تَتَأَسَّفْ بِسَبَبِ نُزُولِ
اللَّعْنِ وَالْعَذَابِ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّهُمْ مِنَ الْكَافِرِينَ الْمُسْتَحِقِّينَ
لِذَلِكَ» اهــ.
وقال
العلامة السعدي رحمه الله في «تفسيره» (ص: 228):«قال: {فَلا تَأْسَ
عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} أي: لا تأسف عليهم ولا تحزن، فإنهم قد فسقوا، وفسقهم
اقتضى وقوع ما نزل بهم لا ظلما منا». اهــ.
وقال
العلامة الشنقيطي رحمه الله في «أضواء البيان »(6/ 126): «وَكَقَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ} [35 \ 22] أَيْ: لَا يَسْتَوِي الْمُؤْمِنُونَ وَالْكَافِرُونَ.
وَمِنْ أَوْضَحِ
الْأَدِلَّةِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى }الْآيَةَ، وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنَ الْآيَاتِ كُلِّهَا،
تَسْلِيَةٌ لَهُ - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّهُ يُحْزِنُهُ عَدَمُ إِيمَانِهِمْ،
كَمَا بَيَّنَهُ تَعَالَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{ قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ
}[6 \ 33] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا
يَقُولُونَ} الْآيَةَ [15 \ 97] وَقَوْلِهِ: {وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} الْآيَةَ [16 \ 127] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [5 \ 68] وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} الْآيَةَ [35 \ 8] وَقَوْلِهِ تَعَالَى:{ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ
لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا}
[18 \ 6] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ
نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ }[26 \ 3] إِلَى
غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ. وَلَمَّا كَانَ يُحْزِنُهُ
كُفْرُهُمْ وَعَدَمُ إِيمَانِهِمْ، أَنْزَلَ الله آيَاتٍ كَثِيرَةً تَسْلِيَةً لَهُ
- صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيَّنَ لَهُ فِيهَا أَنَّهُ لَا قُدْرَةَ لَهُ
- صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى هُدَى مَنْ أَضَلَّهُ الله، فَإِنَّ الْهُدَى
وَالْإِضْلَالَ بِيَدِهِ جَلَّ وَعَلَا وَحْدَهُ، وَأَوْضَحَ لَهُ أَنَّهُ نَذِيرٌ،
وَقَدْ أَتَى بِمَا عَلَيْهِ فَأَنْذَرَهُمْ عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ وَأَبْلَغِهَا،
وَأَنَّ هُدَاهُمْ وَإِضْلَالَهُمْ بِيَدِ مَنْ خَلَقَهُمْ» اهــ
وقال الله
تعالى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ
وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14)
وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ الله عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَالله عَلِيمٌ حَكِيمٌ
} [التوبة: 14، 15].
أقول: ذهاب
الشر وأهله وإذلالهم وأهانتهم، والنصر عليهم، وزوال شرهم وهلكتهم، هذا يفرح
المؤمنين ويشفي صدورهم ويريح بالهم، فهم يرون نصر الله، ويرون العزة لهم، ويرون أن
الله أراح البلاد والعباد من شر هؤلاء؛ الذين كان همهم ليلًا ونهارًا هزيمة الحق
وأهله، والصد عن سبيل الله، فحق للمؤمنين أن ترتاح نفوسهم وتطمئن لذلك.
قال الإمام
ابن جرير رحمه الله في «تفسيره»: (11 / 369) :«يَقُولُ
تَعَالَى ذِكْرُهُ: قَاتِلُوا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ بِالله وَرَسُولِهِ هَؤُلَاءِ
الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَنَقَضُوا عُهُودَهُمْ بَيْنَكُمْ
وَبَيْنَهُمْ، وَأَخْرَجُوا رَسُولَ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَيْنِ
أَظْهُرِهِمْ. {يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ} [التوبة: 14] يَقُولُ: يَقْتُلُهُمُ
الله بِأَيْدِيكُمْ. {وَيُخْزِهِمْ} [التوبة: 14] يَقُولُ: وَيُذِلُّهُمْ بِالْأَسْرِ
وَالْقَهْرِ. {وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 14] فَيُعْطِيكُمُ الظَّفَرَ عَلَيْهِمْ
وَالْغَلَبَةَ. {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} [التوبة: 14] يَقُولُ: وَيُبْرِئْ
دَاءَ صُدُورِ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ بِالله وَرَسُولِهِ بِقَتْلِ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ
بِأَيْدِيكُمْ وَإِذْلَالِكُمْ وَقَهْرِكُمْ إِيَّاهُمْ، وَذَلِكَ الدَّاءُ هُوَ مَا
كَانَ فِي قُلُوبِهِمْ عَلَيْهِمْ مِنَ الْمَوْجِدَةِ بِمَا كَانُوا يَنَالُونَهُمْ
بِهِ مِنَ الْأَذَى وَالْمَكْرُوهِ. وَقِيلَ: إِنَّ الله عَنَى بِقَوْلِهِ: {وَيَشْفِ
صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} [التوبة: 14] صُدُورَ خُزَاعَةَ حُلَفَاءَ رَسُولِ الله
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَلِكَ أَنَّ قُرَيْشًا نَقَضُوا الْعَهْدَ بَيْنَهُمْ
وَبَيْنَ رَسُولِ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَعُونَتِهِمْ بِكْرًا عَلَيْهِمْ
» اهــ
وقال
الفخر الرازي في «تفسيره» (16 / 6) :« فَهَذِهِ هِيَ الْمَنَافِعُ
الْخَمْسَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا الله تَعَالَى فِي هَذَا الْقِتَالِ، وَكُلُّهَا تَرْجِعُ
إِلَى تَسْكِينِ الدَّوَاعِي النَّاشِئَةِ مِنَ الْقُوَّةِ الْغَضَبِيَّةِ، وَهِيَ
التَّشَفِّي وَدَرْكُ الثَّأْرِ وَإِزَالَةُ الْغَيْظِ، وَلَمْ يَذْكُرْ تَعَالَى فِيهَا
وِجْدَانَ الْأَمْوَالِ وَالْفَوْزَ بِالْمَطَاعِمِ وَالْمَشَارِبِ وَذَلِكَ لِأَنَّ
الْعَرَبَ قَوْمٌ جُبِلُوا عَلَى الْحَمِيَّةِ وَالْأَنَفَةِ.. »اهــ
وقال
الحافظ ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» (4 / 21) :«وَيَشْفِ
صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ } [التَّوْبَةِ: 14،
15] ؛ وَلِهَذَا كَانَ قَتلُ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ
بِأَيْدِي أَعْدَائِهِمُ الَّذِينَ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِمْ بِأَعْيُنِ ازْدِرَائِهِمْ،
أَنَكَى لَهُمْ وَأَشْفَى لِصُدُورِ حِزْبِ الْإِيمَانِ. فَقَتْلُ أَبِي جَهْلٍ فِي
مَعْرَكَةِ الْقِتَالِ وَحَوْمَةِ الْوَغَى، أَشَدُّ إِهَانَةً لَهُ مِنْ أَنْ
يَمُوتُ عَلَى فِرَاشِهِ بِقَارِعَةٍ أَوْ صَاعِقَةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، كَمَا مَاتَ
أَبُو لَهَبٍ -لَعَنَهُ الله-بالعَدَسة بِحَيْثُ لَمْ يَقْرَبْهُ أَحَدٌ مِنْ أَقَارِبِهِ،
وَإِنَّمَا غَسَّلُوهُ بِالْمَاءِ قَذْفًا مِنْ بَعِيدٍ، وَرَجَمُوهُ حَتَّى دَفَنُوهُ
»اهــ
وقال
العلامة السعدي رحمه الله في « تفسيره» (ص: 331) :«{وَيَشْفِ
صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ * غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} فإن في قلوبهم من الحنق
والغيظ عليهم ما يكون قتالهم وقتلهم شفاء لما في قلوب المؤمنين من الغم والهم إذ يرون
هؤلاء الأعداء محاربين لله ولرسوله ساعين في إطفاء نور الله وزوالا للغيظ الذي في قلوبهم
وهذا يدل على محبة الله لعباده المؤمنين واعتنائه بأحوالهم حتى إنه جعل -من جملة المقاصد
الشرعية- شفاء ما في صدورهم وذهاب غيظهم». اهــ
وقال الله
تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا
نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا
وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9) إِذْ جَاءُوكُمْ
مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ
الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِالله الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ
الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب: 9
- 11]
أقول: يذكر
الله عباده المؤمنين بنعمة عظيمة ويمتن عليهم بها، حيث أزال عنهم جنود الشيطان
وهزمهم وأذلهم، وأرسل عليهم جندًا من عنده سبحانه وتعالى، فنصرهم عز وجل على عدوهم
نصرًا عظيمًا ورد الله كيد أهل الباطل المتحزبة، وهذا مما أفرح المؤمنين.
قال
الحافظ ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» (6/ 391):«هَذِهِ الْآيَةُ
الْكَرِيمَةُ أَصْلٌ كَبِيرٌ فِي التَّأَسِّي بِرَسُولِ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَحْوَالِهِ؛ وَلِهَذَا أُمِرَ النَّاسُ
بِالتَّأَسِّي بِالنَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْأَحْزَابِ، فِي
صَبْرِهِ وَمُصَابَرَتِهِ وَمُرَابَطَتِهِ وَمُجَاهَدَتِهِ وَانْتِظَارِهِ الْفَرَجَ
مِنْ رَبِّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، صَلَوَاتُ الله وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ دَائِمًا إِلَى
يَوْمِ الدِّينِ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى لِلَّذِينِ تَقَلَّقُوا وَتَضْجَّرُوا وَتَزَلْزَلُوا
وَاضْطَرَبُوا فِي أَمْرِهِمْ يَوْمَ الْأَحْزَابِ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ
الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} أَيْ: هَلَّا اقْتَدَيْتُمْ بِهِ وَتَأَسَّيْتُمْ بِشَمَائِلِهِ؟
وَلِهَذَا قَالَ: {لِمَنْ كَانَ يَرْجُو الله وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ الله كَثِيرًا}
.
ثُمَّ قَالَ
تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُصَدِّقِينَ بِمَوْعُودِ الله
لَهُمْ، وجَعْله العاقبةَ حَاصِلَةً لهم في الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَقَالَ: {وَلَمَّا
رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ
الله وَرَسُولُهُ} .
قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: يَعْنُونَ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي "سُورَةِ الْبَقَرَةِ"
{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ
خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى
يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ الله أَلا إِنَّ نَصْرَ
الله قَرِيبٌ} [الْبَقَرَةِ: 214] .
أَيْ هَذَا مَا
وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ مِنَ الِابْتِلَاءِ وَالِاخْتِبَارِ وَالِامْتِحَانِ الَّذِي
يَعْقُبُهُ النَّصْرُ الْقَرِيبُ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَصَدَقَ الله وَرَسُولُهُ} .
وَقَوْلُهُ:
{وَمَا زَادَهُمْ إِلا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} : دَلِيلٌ عَلَى زِيَادَةِ الْإِيمَانِ
وَقُوَّتِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى النَّاسِ وَأَحْوَالِهِمْ، كَمَا قَالَهُ جُمْهُورُ
الْأَئِمَّةِ: إِنَّهُ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ. وَقَدْ قَرَّرْنَا ذَلِكَ فِي أَوَّلِ
"شَرْحِ الْبُخَارِيِّ" وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَمَعْنَى قَوْلِهِ:
{وَمَا زَادَهُمْ} أَيْ: ذَلِكَ الْحَالُ وَالضِّيقُ وَالشِّدَّةُ [مَا زَادَهُمْ]
{إِلا إِيمَانًا} بِالله، {وَتَسْلِيمًا} أَيِ: انْقِيَادًا لِأَوَامِرِهِ، وطاعة لرسوله»
اهـــ.
وعن أَنَسَ بْنَ
مَالِكٍ رَضِيَ الله عَنْهُ، قال مَرُّوا
بِجَنَازَةٍ، فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا خَيْرًا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: «وَجَبَتْ» ثُمَّ مَرُّوا بِأُخْرَى فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا شَرًّا، فَقَالَ:
«وَجَبَتْ» فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رَضِيَ الله عَنْهُ: مَا وَجَبَتْ؟ قَالَ:
«هَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا، فَوَجَبَتْ لَهُ الجَنَّةُ، وَهَذَا أَثْنَيْتُمْ
عَلَيْهِ شَرًّا، فَوَجَبَتْ لَهُ النَّارُ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ الله فِي الأَرْضِ»
متفق عليه
أقول: كان
يعمل الشر في الدنيا في حياته ويمارسه علانية وعرفه الناس وعرفوا شره وباطله، فلما
مات ذكروه بشره، وبما كان يعمله، وشهدوا
عليه بذلك، فأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم، وأثبت أنه وجبت بسبب شره الذي كان
يمارسه، وفي ذهابه خير وسعادة للبلاد والعباد والحجر والشجر فمثله لا يحزن عليه،
بخلاف المؤمن الصالح الذي يعمل الخير في
الدنيا، ويراه الناس على صلاح وخير وهداية، فشهدوا له بالخيرية، فمثله يحزن عليه
وعلى ذهابه.
قال
الحافظ ابن حجر رحمه الله في «فتح الباري» (3 / 229) :«قَوْلُهُ«
أَنْتُمْ شُهَدَاءُ الله فِي الْأَرْضِ» أَيِ الْمُخَاطَبُونَ بِذَلِكَ مِنَ الصَّحَابَةِ
وَمَنْ كَانَ على صفتهمْ من الْإِيمَان وَحكى بن التِّينِ أَنَّ ذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِالصَّحَابَةِ
لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَنْطِقُونَ بِالْحِكْمَةِ بِخِلَافِ مَنْ بَعْدَهُمْ قَالَ وَالصَّوَابُ
أَنَّ ذَلِكَ يَخْتَصُّ بِالثِّقَاتِ وَالْمُتَّقِينَ» انْتَهَى.
وقال
العيني رحمه الله في «عمدة القاري» (8/ 195):«فَإِن
قيل: كَيفَ يجوز ذكر شَرّ الْمَوْتَى، مَعَ وُرُود الحَدِيث الصَّحِيح عَن زيد بن أَرقم
فِي النَّهْي عَن سبّ الْمَوْتَى وَذكرهمْ إلاَّ بِخَير. وَأجِيب: بِأَن النَّهْي عَن
سبّ الْأَمْوَات غير الْمُنَافِق وَالْكَافِر والمجاهر بِالْفِسْقِ أَو بالبدعة، فَإِن
هَؤُلَاءِ لَا يحرم، وَذكرهمْ بِالشَّرِّ للحذر من طريقهم، وَمن الِاقْتِدَاء بهم،
وَقيل: لَا بُد أَن يكون ثناؤهم مطابقا لأفعاله» اهــ.
وعَنْ أَبِي قَتَادَةَ
بْنِ رِبْعِيٍّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مُرَّ عَلَيْهِ بِجَنَازَةٍ، فَقَالَ: «مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ»
، قَالُوا: يَا رَسُولَ الله، مَا الْمُسْتَرِيحُ وَالْمُسْتَرَاحُ مِنْهُ؟ فَقَالَ:
«الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا، وَالْعَبْدُ الْفَاجِرُ
يَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ، وَالْبِلَادُ، وَالشَّجَرُ، وَالدَّوَابُّ» متفق
عليه
أقول: ترى
أيها القارئ الكريم قوله «مستراح منه» يستريح العباد، وتستريح البلاد منه ومن شره،
ويسعدون بزواله وزوال شره وفساده وإجرامه الذي كان يؤذي به الخلق في حياته، فـأهل
الشر نقمة وبلاءٌ على الناس، فبهم يزيد الشر ويتفاقم ويكثر، وبزوالهم يتقلص الشر
ويزول، ويسلم الناس في دينهم ودنياهم، فكم
من صاحب شر لما مات انطفأت فتنة كبيرة لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى والتأريخ
شاهد بذلك .
قال
الحافظ ابن حجر رحمه الله :في «فتح الباري» (11/ 365): «قال
ابن التين :يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِالْمُؤْمِنِ التَّقِيَّ خَاصَّةً وَيَحْتَمِلُ
كُلَّ مُؤْمِنٍ وَالْفَاجِرُ يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْكَافِرَ وَيَحْتَمِلُ
أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ الْعَاصِي، وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ أَمَّا اسْتِرَاحَةُ الْعِبَادِ
فَلِمَا يَأْتِي بِهِ مِنَ الْمُنْكَرِ فَإِنْ أَنْكَرُوا عَلَيْهِ آذَاهُمْ وَإِنْ
تَرَكُوهُ أَثِمُوا وَاسْتِرَاحَةُ الْبِلَادِ مِمَّا يَأْتِي بِهِ مِنَ الْمَعَاصِي
فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَحْصُلُ بِهِ الْجَدْبُ فَيَقْتَضِي هَلَاكَ الْحَرْثِ وَالنَّسْلِ
وَتَعَقَّبَ الْبَاجِيُّ أَوَّلَ كَلَامِهِ بِأَنَّ مَنْ نَالَهُ أَذَاهُ لَا يَأْثَمُ
بِتَرْكِهِ لِأَنَّهُ بَعْدَ أَنْ يُنْكِرَ بِقَلْبِهِ أَوْ يُنْكِرَ بِوَجْهٍ لَا
يَنَالُهُ بِهِ أَذًى وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِرَاحَةِ الْعِبَادِ مِنْهُ
لِمَا يَقَعُ لَهُمْ مِنْ ظُلْمِهِ وَرَاحَةُ الْأَرْضِ مِنْهُ لِمَا يَقَعُ عَلَيْهَا
مِنْ غَصْبِهَا وَمَنْعِهَا مِنْ حَقِّهَا وَصَرْفِهِ فِي غَيْرِ وَجْهِهِ وَرَاحَةِ
الدَّوَابِّ مِمَّا لَا يَجُوزُ مِنْ إِتْعَابِهَا وَالله اعْلَم » اهــ
وقال
النووي رحمه الله في «شرح مسلم» (7 / 21) :« فَقَالَ
«مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ» ثُمَّ فَسَّرَهُ بِأَنَّ الْمُؤْمِنَ يَسْتَرِيحُ مِنْ
نَصَبِ الدُّنْيَا وَالْفَاجِرَ «يَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ وَالْبِلَادُ وَالشَّجَرُ
وَالدَّوَابُّ» مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ الْمَوْتَى قِسْمَانِ مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ
مِنْهُ وَنَصَبُ الدُّنْيَا تَعَبُهَا وَأَمَّا اسْتِرَاحَةُ العباد مِنَ الْفَاجِرِ
مَعْنَاهُ انْدِفَاعُ أَذَاهُ عَنْهُمْ وَأَذَاهُ يَكُونُ مِنْ وُجُوهٍ مِنْهَا ظُلْمُهُ
لَهُمْ وَمِنْهَا ارْتِكَابُهُ لِلْمُنْكَرَاتِ فَإِنْ أَنْكَرُوهَا قَاسَوْا مَشَقَّةً
مِنْ ذَلِكَ وَرُبَّمَا نَالَهُمْ ضَرَرُهُ وَإِنْ سَكَتُوا عَنْهُ أَثِمُوا وَاسْتِرَاحَةُ
الدَّوَابِّ مِنْهُ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ يؤذيها ويضربها وَيُحَمِّلُهَا مَا لَا
تُطِيقُهُ وَيُجِيعُهَا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَاسْتِرَاحَةُ الْبِلَادِ
وَالشَّجَرِ فَقِيلَ لِأَنَّهَا تُمْنَعُ الْقَطْرَ بِمُصِيبَتِهِ قَالَهُ الدَّاوُدِيُّ
وَقَالَ الباجي لِأَنَّهُ يَغْصِبُهَا وَيَمْنَعُهَا حَقَّهَا مِنَ الشُّرْبِ وَغَيْرِهِ»
اهــ
وعن جَابِرَ بْنَ
عَبْدِ الله رَضِيَ الله عَنْهُمَا، قال: قَالَ رَسُولُ
الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ لِكَعْبِ بْنِ الأَشْرَفِ، فَإِنَّهُ قَدْ
آذَى الله وَرَسُولَهُ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» ، فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ:
أَنَا، فَأَتَاهُ، فَقَالَ: أَرَدْنَا أَنْ تُسْلِفَنَا، وَسْقًا أَوْ وَسْقَيْنِ،
فَقَالَ: ارْهَنُونِي نِسَاءَكُمْ، قَالُوا: كَيْفَ نَرْهَنُكَ نِسَاءَنَا وَأَنْتَ
أَجْمَلُ العَرَبِ؟ قَالَ: فَارْهَنُونِي أَبْنَاءَكُمْ، قَالُوا: كَيْفَ نَرْهَنُ
أَبْنَاءَنَا، فَيُسَبُّ أَحَدُهُمْ، فَيُقَالُ: رُهِنَ بِوَسْقٍ، أَوْ وَسْقَيْنِ؟
هَذَا عَارٌ عَلَيْنَا، وَلَكِنَّا نَرْهَنُكَ اللَّأْمَةَ - قَالَ سُفْيَانُ: يَعْنِي
السِّلاَحَ - فَوَعَدَهُ أَنْ يَأْتِيَهُ، فَقَتَلُوهُ ، ثُمَّ أَتَوُا النَّبِيَّ
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرُوهُ» متفق عليه
وهذا لفظ البخاري
وفي رواية:« فَقَالَ
مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ أَتُحِبُّ أَنْ أَقْتُلَهُ؟ قَالَ: «نَعَمْ» ، قَالَ:
فَأْذَنْ لِي، فَأَقُولَ قَالَ: «قَدْ فَعَلْتُ» متفق عليه.
وقال الإمام
البخاري في «التاريخ الكبير» (1/ 11):«قَالَ
لي اسمعيل بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ جَعْفَرِ بن محمود ابن مُحَمَّدِ
بْنِ مَسْلَمَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله أَنَّ مُحَمَّدًا وَأَبَا
عَبْسِ بْنَ جَبْرٍ وَعَبَّادَ بْنَ بِشْرٍ قَتَلُوا كَعْبَ بْنَ الأَشْرَفِ فَقَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ نَظَرَ إِلَيْهِمْ« أَفْلَحَتِ الْوُجُوهُ».
إبراهيم بن
جعفر هو الحارثي الأنصاري، قال أبو حاتم في الجرح والتعديل(2/91):« صالح»، وذكره
ابن حبان في الثقات(8/26)،وأبوه جعفر بن محمود الأنصاري قال الحافظ في التقريب«
صدوق» فالحديث حسن إن شاء الله كما قاله المحقق
أقول: كعب
بن الأشرف آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسبب فتنةً وشرًا على خير خلق الله، فلما رأى بعض الصحابة هذا وسمعوا طلب رسول الله
صلى الله عليه وسلم في التخلص من هذا الخبيث، قام أحد الصحابة وقال:« أتحب ذلك»
فقال نعم ، فرسوله صلى الله عليه وسلم أحب زوال هذا الخبيث وفرح بذلك، واستبشر
بزواله عندما أخبر بذلك.
قال
الحافظ ابن حجر رحمه الله في «فتح الباري»(7/ 340):«وَفِي رِوَايَة
بن سَعْدٍ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ لَمَّا أَخَذَ بِقُرُونِ شَعْرِهِ قَالَ
لِأَصْحَابِهِ اقْتُلُوا عَدُوَّ الله فَضَرَبُوهُ بِأَسْيَافِهِمْ فَالْتَفَّتْ عَلَيْهِ
فَلَمْ تُغْنِ شَيْئًا قَالَ مُحَمَّدٌ فَذَكَرْتُ مِعْوَلًا كَانَ فِي سَيْفِي فَوَضَعْتُهُ
فِي سُرَّتِهِ ثُمَّ تَحَامَلْتُ عَلَيْهِ فَغَطَطْتُهُ حَتَّى انْتَهَى إِلَى عَانَتِهِ
فَصَاحَ وَصَاحَتِ امْرَأَتُهُ يَا آلَ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ مَرَّتَيْنِ قَوْلُهُ
فَأَخْبَرُوهُ فِي رِوَايَةِ عُرْوَةَ فَأَخْبَرُوا النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَحَمِدَ الله تَعَالَى ..»اهــ
وعن أَبِي هُرَيْرَةَ
رَضِيَ الله عَنْهُ، قَالَ: " لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ
عَلَيْهِ السَّلاَمُ إِلَّا ثَلاَثَ كَذَبَاتٍ، ثِنْتَيْنِ مِنْهُنَّ فِي ذَاتِ الله
عَزَّ وَجَلَّ، قَوْلُهُ {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 89] . وَقَوْلُهُ: {بَلْ فَعَلَهُ
كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 63] . وَقَالَ: بَيْنَا هُوَ ذَاتَ يَوْمٍ وَسَارَةُ،
إِذْ أَتَى عَلَى جَبَّارٍ مِنَ الجَبَابِرَةِ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ هَا هُنَا رَجُلًا
مَعَهُ امْرَأَةٌ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ فَسَأَلَهُ عَنْهَا،
فَقَالَ: مَنْ هَذِهِ؟ قَالَ: أُخْتِي، فَأَتَى سَارَةَ قَالَ: يَا سَارَةُ: لَيْسَ
عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ مُؤْمِنٌ غَيْرِي وَغَيْرَكِ، وَإِنَّ هَذَا سَأَلَنِي فَأَخْبَرْتُهُ
أَنَّكِ أُخْتِي، فَلاَ تُكَذِّبِينِي، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ
ذَهَبَ يَتَنَاوَلُهَا بِيَدِهِ فَأُخِذَ، فَقَالَ: ادْعِي الله لِي وَلاَ أَضُرُّكِ،
فَدَعَتِ الله فَأُطْلِقَ، ثُمَّ تَنَاوَلَهَا الثَّانِيَةَ فَأُخِذَ مِثْلَهَا أَوْ
أَشَدَّ، فَقَالَ: ادْعِي الله لِي وَلاَ أَضُرُّكِ، فَدَعَتْ فَأُطْلِقَ، فَدَعَا
بَعْضَ حَجَبَتِهِ، فَقَالَ: إِنَّكُمْ لَمْ تَأْتُونِي بِإِنْسَانٍ، إِنَّمَا أَتَيْتُمُونِي
بِشَيْطَانٍ، فَأَخْدَمَهَا هَاجَرَ، فَأَتَتْهُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي، فَأَوْمَأَ
بِيَدِهِ: مَهْيَا، قَالَتْ: رَدَّ الله كَيْدَ الكَافِرِ، أَوِ الفَاجِرِ، فِي نَحْرِهِ،
وَأَخْدَمَ هَاجَرَ " قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ تِلْكَ أُمُّكُمْ يَا بَنِي مَاءِ
السَّمَاءِ»
أقول: هذا
فرح عظيم برد الله عز وجل كيد هذا الفاجر الخبيث؛ الذي أراد الشر والفتنة وأراد
انتهاك الأعراض والحرمات، فدافع الله عنها وانتقم من الفاجر وزال شره وفتنته.
قال
الحافظ ابن حجر رحمه الله في «فتح الباري»
(6/ 394):«قَوْلُهُ «رَدَّ الله كَيْدَ الْكَافِرِ أَوِ الْفَاجِرِ فِي نَحْرِهِ»
هَذَا مَثَلٌ تَقُولُهُ الْعَرَبُ لِمَنْ أَرَادَ أَمْرًا بَاطِلًا فَلَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ
وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْأَعْرَجِ أَشَعَرْتَ أَنَّ الله كَبَتَ الْكَافِرَ وَأَخْدَمَ
وَلِيدَةً أَيْ جَارِيَةً لِلْخِدْمَةِ وَكَبَتَ بِفَتْحِ الْكَافِ وَالْمُوَحَّدَةِ
ثُمَّ مُثَنَّاةٍ أَيْ رَدَّهُ خَاسِئًا ».اهــ
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
رَضِيَ الله عَنْهُمَا، أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَمَّا قَدِمَ المَدِينَةَ، وَجَدَهُمْ يَصُومُونَ
يَوْمًا، يَعْنِي عَاشُورَاءَ، فَقَالُوا: هَذَا يَوْمٌ عَظِيمٌ، وَهُوَ يَوْمٌ نَجَّى
الله فِيهِ مُوسَى، وَأَغْرَقَ آلَ فِرْعَوْنَ، فَصَامَ مُوسَى شُكْرًا لِلَّهِ، فَقَالَ
«أَنَا أَوْلَى بِمُوسَى مِنْهُمْ» فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ».
متفق عليه
أقول:
هذا اليوم فرح فيه موسى عليه الصلاة والسلام وأصحابه بنصر الله
العظيم وانقاذه عباده الصالحين، وغرق فرعون وموته وزواله عليه لعائن الله، فصامه
موسى عليه الصلاة والسلام شكرًا لله فرحًا بذلك، وكان لنبينا صلى الله عليه وسلم
أن يفرح بذلك النصر الذي أغرق الله فيها ذلك الطاغية، وأزال الله ذلك الشر عن
الإسلام والمسلمين.
والآن سنذكر -بإذن
الله تعالى- عددًا من الأثار عن سلفنا الصالح في الفرح بزوال الشر وأهله.
قال شيخ
الإسلام ابن تيمية رحمه الله كما في «مجموع الفتاوى» (20/ 395):«وَقَاتَلَهُمْ
أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ الله عَنْهُ وَذَكَرَ فِيهِمْ
سُنَّةَ رَسُولِ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُتَضَمِّنَةَ لِقِتَالِهِمْ
وَفَرِحَ بِقَتْلِهِمْ وَسَجَدَ لِلَّهِ شُكْرًا لَمَّا رَأَى أَبَاهُمْ مَقْتُولًا
وَهُوَ ذُو الثدية بِخِلَافِ مَا جَرَى يَوْمَ الْجَمَلِ وصفين؛ فَإِنَّ عَلِيًّا لَمْ
يَفْرَحْ بِذَلِكَ بَلْ ظَهَرَ مِنْهُ مِنْ التَّأَلُّمِ وَالنَّدَمِ مَا ظَهَرَ وَلَمْ
يَذْكُرْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ سُنَّةً بَلْ
ذَكَرَ أَنَّهُ قَاتَلَ بِاجْتِهَادِهِ. فَأَهْلُ الْمَدِينَةِ اتَّبَعُوا السُّنَّةَ
فِي قِتَالِ الْمَارِقِينَ مِنْ الشَّرِيعَةِ وَتَرَكَ الْقِتَالَ فِي الْفِتْنَةِ
وَعَلَى ذَلِكَ أَئِمَّةُ أَهْلِ الْحَدِيثِ» اهــ
وقال
العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في« زاد المعاد» (3/ 511):«وَفِي
سُجُودِ كعب حِينَ سَمِعَ صَوْتَ الْمُبَشِّرِ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ أَنَّ تِلْكَ كَانَتْ
عَادَةَ الصَّحَابَةِ، وَهِيَ سُجُودُ الشُّكْرِ عِنْدَ النِّعَمِ الْمُتَجَدِّدَةِ
وَالنِّقَمِ الْمُنْدَفِعَةِ، وَقَدْ سَجَدَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ لَمَّا
جَاءَهُ قَتْلُ مسيلمة الكذاب، وَسَجَدَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ لَمَّا وَجَدَ
ذَا الثُّدَيَّةِ مَقْتُولًا فِي الْخَوَارِجِ، وَسَجَدَ رَسُولُ
الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ بَشَّرَهُ جِبْرِيلُ أَنَّهُ مَنْ صَلَّى
عَلَيْهِ مَرَّةً صَلَّى الله عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا، وَسَجَدَ
حِينَ شَفَعَ لِأُمَّتِهِ فَشَفَّعَهُ الله فِيهِمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَأَتَاهُ بَشِيرٌ
فَبَشَّرَهُ بِظَفَرِ جُنْدٍ لَهُ عَلَى عَدُوِّهِمْ وَرَأْسُهُ فِي حِجْرِ عائشة،
فَقَامَ فَخَرَّ سَاجِدًا، وَقَالَ أبو بكرة: «كَانَ رَسُولُ الله إِذَا أَتَاهُ أَمْرٌ
يَسُرُّهُ خَرَّ لِلَّهِ سَاجِدًا» ، وَهِيَ آثَارٌ
صَحِيحَةٌ لَا مَطْعَنَ فِيهَا» .اهــ
وقال
الإمام أبو بكر الخلال رحمه الله في «السنة»: (5 / 121) :«سَمِعْتُ
أَبَا بَكْرٍ الْمَرُّوذِيَّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ الله، وَذَكَرَ الْجَهْمِيَّةَ،
فَقَالَ: «إِنَّمَا كَانَ يُرَادُ بِهِمُ الْمَطَابِقَ، تَدْرِي أَيَّ شَيْءٍ عَمِلُوا
هَؤُلَاءِ فِي الْإِسْلَامِ؟» قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ الله: الرَّجُلُ يَفْرَحُ بِمَا
يَنْزِلُ بِأَصْحَابِ ابْنِ أَبِي دُؤَادَ، عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ إِثْمٌ؟، قَالَ: «وَمَنْ
لَا يَفْرَحُ بِهَذَا؟» قِيلَ لَهُ: إِنَّ ابْنَ الْمُبَارَكِ قَالَ: «الَّذِي يَنْتَقِمُ
مِنَ الْحَجَّاجِ، هُوَ يَنْتَقِمُ لِلْحَجَّاجِ مِنَ النَّاسِ» . قَالَ: «أَيَّ شَيْءٍ
يُشْبِهُ هَذَا مِنَ الْحَجَّاجِ؟ هَؤُلَاءِ أَرَادُوا تَبْدِيلَ الدِّينِ» اهــ.
وقال
الإمام الخطيب رحمه الله في «تاريخ بغداد» (5 / 233) :«أَخْبَرَنَا
أَبُو الْحَسَن عَلِيّ بْن يَحْيَى بْن جعفر الإمام بأصبهان، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو
مُحَمَّد عَبْد الله بْن الْحَسَن بْن بندار المديني، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو جعفر
مُحَمَّد بْن إِسْمَاعِيل الصايغ، قَالَ: هَذَا شعر قاله ابْن شراعة البصري فِي ابْن
أَبِي دؤاد حين بلغه أنه فلج( أصيب بمرض الفالج)، فَقَالَ:
أفلت نجوم سعودك
ابن دواد *** وبدت نحوسك في جميع إياد
فرحت بمصرعك
البرية كلها *** من كان منها موقنا بمعاد
لم يبق منك سوى
خيال لامع *** فوق الفراش ممهدا بوساد
وخبت لدى الخلفاء
نار بعدما *** قد كنت تقدحها بكل زناد
اطغاك يا ابن
أبي دواد ربنا *** فجريت في ميدان إخوة عاد
لم تخش من رب
السماء عقوبة *** فسننت كل ضلالة وفساد
كم من كريمة
معشر أرملتها *** ومحدث أوثقت بالأقياد
كم من مساجد
قد منعت قضاتها *** من أن تعدل شاهدا برشاد
كم من مصابيح
لها أطفيتها ***كيما تزل عن الطريق الهادي
إن الأسارى في
السجون تفرجوا *** لما أتتك مواكب العواد
وغدا لمصرعك
الطبيب فلم يجد *** لعلاج مابك حيلة المرتاد
لازال فالجك
الذي بك دائما *** وفجعت قبل الموت بالأولاد
وأبا الوليد
رأيت في أكتافه *** سوط الخليفة من تدى جلاد
ورأيت رأسك في
الخشوب معلقا *** فوق الرؤوس معلما بسواد »اهـ
هذا الأثر
صحيح
وقال
الإمام الخلال رحمه الله في «السنة » (5 / 120) :« أَخْبَرَنِي
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الله بْنِ صَدَقَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ الْمَيْمُونِيَّ،
يَقُولُ: قُلْتُ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: يَا أَبَا عَبْدِ الله، لَمَّا أُخْرِجَتْ
جِنَازَةُ ابْنِ طَرَّاحٍ، جَعَلُوا الصِّبْيَانَ يَصِيحُونَ: اكْتُبْ إِلَى مَالِكٍ:
قَدْ جَاءَ حَطَبُ النَّارِ. قَالَ: فَجَعَلَ أَبُو عَبْدِ الله يُسَتِّرُ وَجَعَلَ
يَقُولُ: «يَصِيحُونَ، يَصِيحُونَ» اهــ. الأثر صحيح.
وقال
الحافظ ابن كثير رحمه الله في «البداية والنهاية» (10/ 366):«
قال: فجثى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَرَمَقَ بِطَرْفِهِ
إِلَى السماء وقال: سيدي غرَّ حلمك هذا الفاجر حتى تجرأ عَلَى أَوْلِيَائِكَ بِالضَّرْبِ
وَالْقَتْلِ، اللهمَّ فَإِنْ يَكُنِ الْقُرْآنُ كَلَامُكَ غَيْرَ مَخْلُوقٍ فَاكْفِنَا
مُؤْنَتَهُ.
قَالَ: فَجَاءَهُمُ الصَّرِيخُ بِمَوْتِ
الْمَأْمُونِ فِي الثُّلُثِ الْأَخِيرِ من الليل. قال أحمد: ففرحنا »اهــ
وقال عبد
الغني بن سعيد الأزدي المصري في كتابه «المتوارين» (ص: 40) :« هروب أبي عَمْرو بن الْعَلَاء من الْحجَّاج بن يُوسُف
وتواريه مِنْهُ بِالْيمن
قال حَدثنَا
أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن جَعْفَر بن مُحَمَّد بن الْورْد إملاء ثَنَا أَبُو إِسْحَاق
إِبْرَاهِيم بن حميد الْبَصْرِيّ القَاضِي ثَنَا أَبُو حَاتِم سهل بن مُحَمَّد بن عُثْمَان
السجسْتانِي ثَنَا الْأَصْمَعِي عن أبي عَمْرو بن الْعَلَاء أنه قَالَ اسْتعْمل الْحجَّاج
أبي عَليّ بعض أَعماله فنقم عَلَيْهِ فَخرج أبي إِلَى بادية قومه فتوارى بهَا وَأَنا
مَعَه فَبينا نَحن فِي سحر من الأسحار إِذْ أقبل رَاكب وَهُوَ يَقُول:
رُبمَا تجزع
النُّفُوس من الْأُمـ ... ـر لَهُ فُرْجَة كحل العقال
قَالَ قلت وَمَا ذَاك قَالَ مَاتَ الْحجَّاج
فوَ الله مَا أَدْرِي بِأَيِّهِمَا كنت أَشد
فَرحا مَاتَ الْحجَّاج أَبُو بقوله فُرْجَة » اهــ
وأخرجه من طريق أَبُي عَليّ الْحسن بن
الْخَلِيل بن قوام الْحِمْيَرِي ثَنَا أَبُو جَعْفَر أَحْمد بن مُحَمَّد بن سَلامَة
ثَنَا أَحْمد بن أبي عمرَان ثَنَا أَبُو نصر أَحْمد ابْن حَاتِم عَن الْأَصْمَعِي،
به. والأثر صحيح
وقال ابن
سعد في «الطبقات» (6/ 287):«أَخْبَرَنَا
عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِمَّانِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ
حَمَّادٍ قَالَ: بَشَّرْتُ إِبْرَاهِيمَ بِمَوْتِ الْحَجَّاجِ فَسَجَدَ.
قَالَ: وَقَالَ
حَمَّادٌ: مَا كُنْتُ أَرَى أَنَّ أَحَدًا يَبْكِي مِنَ الْفَرَحِ حَتَّى رَأَيْتُ
إِبْرَاهِيمَ يَبْكِي مِنَ الفرح». اهـ وذكره الحافظ الذهبي رحمه الله في «سير أعلام النبلاء» (4/ 524).
وقال الإمام ابن معين كما في «تاريخه رواية الدوري»
(3/ 546):« تليد كَذَّاب كَانَ يشْتم عُثْمَان وكل من يشْتم
عُثْمَان أَو طَلْحَة أَو أحدا من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دجال
لَا يكْتب عَنهُ وَعَلِيهِ لعنة الله وَالْمَلَائِكَة وَالنَّاس أَجْمَعِينَ»
اهــ. وانظر «تاريخ بغداد»(8/5).
وقال الإمام
الخطيب رحمه الله في «تاريخ بغداد» (10/ 381)«عُبَيْد
الله بْن عَبْد الله بْن الْحُسَيْن، أَبُو القاسم الحفاف، المعروف بابن النقيب، رأى
أبا بكر الشبلي، وسمع محمد بن عبد الله بن مسلم الصفار، وأبا طالب مُحَمَّد بْن أَحْمَد
بْن إِسْحَاق بْن البهلول.
كتبت عنه وكان
سماعه صحيحًا، وكان شديدًا في السنة، وبلغني أنه جلس للتهنئة لما مات ابن المعلم شيخ
الرافضة، وقال: ما أبالي أي وقت مت بعد أن شاهدت موت ابن المعلم» اهـــ.
وقال
الإمام الخطيب رحمه الله في « تاريخ بغداد »(7/ 70):«أخبرنا علي
بن محمد بن عبد الله المعدّل حدّثنا عثمان بن أحمد الدّقّاق حدثنا الحسن بن عمرو المروزي
قال: سمعت بشر بن الحارث يقول: جاء موت هذا الذي يقال له المريسي وأنا في السوق، فلولا
أنه كان موضع شهرة لكان موضع شكر وسجود، والحمد لله الذي أماته هكذا قولوا» اهــ. الأثر
صحيح
وقال
الحافظ ابن حجر رحمه الله في «لسان
الميزان» (6/ 234):« وهب بن وهب بن وهب بن كبير بن
عبد الله بن زمعة بن الأسود.... قال يحيى بن مَعِين: «كان يكذب عدو الله».
وقال عثمان بن
أبي شيبة: «أرى أنه يبعث يوم القيامة دجالا»... ولما بلغ ابن المهدي موته قال: الحمد
لله الذي أراح المسلمين منه» اهــ.
وقال
الإمام ابن القيم رحمه الله في «الكافية الشافية» (ص: 8)شاكرًا خالد
بن عبد الله القسيري عندما ضحى بالجعد بن درهم وكان رأس الجهمية كما يضحى بالكبش ، يوم الأضحى :
شكر الضحية كل
صاحب سنة ... لله درك من أخي قربان» .اهـ
وقال
الحافظ ابن كثير رحمه الله في « البداية والنهاية »(12/ 338)«الحسن
بن صافي بن بزدن التُّرْكِيُّ كَانَ مِنْ أَكَابِرِ أُمَرَاءِ بَغْدَادَ الْمُتَحَكِّمِينَ
فِي الدَّوْلَةِ، وَلَكِنَّهُ كَانَ رَافِضِيًّا خَبِيثًا مُتَعَصِّبًا لِلرَّوَافِضِ،
وَكَانُوا فِي خِفَارَتِهِ وَجَاهِهِ، حَتَّى أَرَاحَ الله الْمُسْلِمِينَ مِنْهُ فِي
هَذِهِ السَّنَةِ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْهَا، وَدُفِنَ بِدَارِهِ ثُمَّ نُقِلَ إلى
مقابر قريش فلله الحمد والمنة.
وحين مات فرح
أهل السنة بموته فرحاً شديداً، وأظهروا الشكر لله، فلا تجد أحداً منهم إلا يحمد الله،
فغضب الشيعة من ذلك، ونشأت بينهم فتنة بسبب ذلك وَذَكَرَ». اهــ
وقال ابن
كثير رحمه الله تعالى في «البداية والنهاية» (8/ 320):«ثُمَّ زَالَتْ
دَوْلَةُ الْمُخْتَارِ-ابن أبي عبيد- كَأَنْ لَمْ تَكُنْ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الدُّوَلِ،
وَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِزَوَالِهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ
الرَّجُلَ لَمْ يَكُنْ فِي نفسه صادقاً، بل كان كاذباً يزعم أنَّ الوحي يأتيه على يد
جبريل.
....... وقد
ذكر الْعُلَمَاءُ أَنَّ الْكَذَّابَ هُوَ الْمُخْتَارُ بْنُ أَبِي عبيد، وكان يظهر
التشيع ويبطن الكهانة، وأسرّ إِلَى أَخِصَّائِهِ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ، وَلَكِنْ
مَا أَدْرِي هَلْ كَانَ يَدَّعِي النُّبُوَّةَ أَمْ لَا؟ وَكَانَ قَدْ وُضِعَ لَهُ
كُرْسِيٌّ يُعَظَّمُ وَيُحَفُّ به الرجال، وَيُسْتَرُ بِالْحَرِيرِ، وَيُحْمَلُ عَلَى
الْبِغَالِ، وَكَانَ يُضَاهِي بِهِ تَابُوتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ الْمَذْكُورُ فِي الْقُرْآنِ،
وَلَا شَكَّ أَنَّهُ كَانَ ضَالًّا مُضِلًّا أَرَاحَ الله المسلمين منه بعد ما انْتَقَمَ
بِهِ مِنْ قَوْمٍ آخَرِينَ مِنَ الظَّالِمِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً
بِما كانُوا يَكْسِبُونَ}»اهــ
وقال
الإمام الذهبي رحمه الله في ميزان الاعتدال (4/ 471):«
يوسف بن قزغلى الواعظ المؤرخ شمس الدين، أبو المظفر، سبط ابن الجوزي.
..وله كتاب مرآة
الزمان، فتراه يأتي فيه بمناكير الحكايات، وما أظنه بثقة فيما ينقله، بل يجنف ويجازف،
ثم إنه ترفض. وله مؤلف في ذلك. نسأل الله العافية.
قال الشيخ محيى الدين السوسى: لما بلغ جدى موت سبط
ابن الجوزي قال: لا رحمه الله، كان رافضيًا. قلت: كان بارعا في الوعظ ومدرسا للحنفية»
.اهــ
وقال
الإمام الذهبي رحمه الله في «سير أعلام النبلاء» (8/ 145):«قَالَ
سَلَمَةُ بنُ شَبيب كُنْتُ عِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ فَجَاءنَا مَوْتُ عَبْدِ المَجِيْدِ
وَذَلِكَ فِي سَنَةِ سِتٍّ وَمائَتَيْنِ فَقَالَ: الحَمْدُ للهِ الَّذِي أَرَاحَ أُمَّةَ
مُحَمَّدٍ مِنْ عَبْدِ المَجِيْدِ. قَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: عَامَّةُ مَا أُنْكِرَ عَلَيْهِ
الإِرْجَاءُ» .اهــ.
وقال
الإمام الذهبي رحمه الله في «تاريخ الإسلام» (24/ 81):«عُبَيْد الله
المهديّ. أبو محمد، أول خلفاء الباطنية بني عُبَيْد أصحاب مصر والمغرب وهو دعي كذَّاب
أدعى أنه من وَلد الحسن بن عليّ. والمحققون متفقون على أنه ليس بُحسَيْني. وما أحسن
ما قال المعز صاحب القاهرة وقد سأله ابن طباطبا العلويّ عن نسبهم، فجذب سيفه من الغمد
وقال: هذا نسبي. ونثر على الحاضرين والأمراء الذهب وقال: وهذا حَسَبي.
تُوُفّي عُبَيْد
الله في ربيع الأوّل بالمغرب. وقد ذكرنا من أخباره في حوادث هذه السنة، فلا رحم الله
فيه مغرز إبرة» اهــ.
وقال
الإمام الذهبي رحمه الله في «العبر في خبر من غبر» في أحداث سنة اثنتين وثلاثين وثلاث مئة (2 / 42)
:«وفيها قتل أبو عبد الله البريدي أخاه أبا يوسف لكونه عامل عليه ابن بويه، ونسبه إلى
الظلم. ولم يحجّ الرَّكب، لموت القرمطي الطاغية، أبي طاهر سليمان بن أبي سعيد الجنَّابي،
في رمضان بهجر، من جدريّ أهلكه، فلا رحم الله فيه مغرز إبرة، وقام بعده أبو القاسم
الجنّابي» اهــ.
وقال
الإمام الذهبي رحمه الله في «العبر في
خبر من غبر» (4/ 75):«ضربت
عنق الفقيه المقرىء ناصر بن الهيتي الصالحي على الزندقة الواضحة، وفرح المسلمون. وكان
من أبناء الستين ».اهــ
وقال
الإمام الذهبي رحمه الله في « تاريخ الإسلام»(35/ 9):«[أسْر
صاحب طبريّة] وأغار أمير دمشق طُغتِكِين عَلَى طبريّة، فخرج ملكها جرْفاس- لعنة الله-
فالتقوا، فقُتل خلْق مِن عسكره وأُسِر هُوَ، وفرح المسلمون » .اهــ
وقال أبو
الحسن علي بن أبي الكرم الجزري في « الكامل في
التاريخ» (9/ 75):«ذِكْرُ
غَزَاةِ الْعَسْكَرِ الْأَتَابَكِيِّ لِبِلَادِ الْفِرِنْجِ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ
فِي شَعْبَانَ، اجْتَمَعَتْ عَسَاكِرُ أَتَابَكْ زَنْكِي صَاحِبُ حَلَبَ وَحَمَاةَ
مَعَ الْأَمِيرِ أَسْوَارَ نَائِبِهِ بِحَلَبَ، وَقَصَدُوا بَلَدَ الْفِرِنْجِ عَلَى
حِينِ غَفْلَةٍ مِنْهُمْ، وَقَصَدُوا أَعْمَالَ اللَّاذِقِيَّةِ بَغْتَةً، وَلَمْ يَتَمَكَّنْ
أَهْلُهَا مِنَ الِانْتِقَالِ عَنْهَا وَالِاحْتِرَازِ، فَنَهَبُوا مِنْهَا مَا يَزِيدُ
عَنِ الْوَصْفِ، وَقَتَلُوا وَأَسَرُوا، وَفَعَلُوا فِي بَلَدِ الْفِرِنْجِ مَا لَمْ
يَفْعَلْهُ بِهِمْ غَيْرُهُمْ.
وَكَانَ الْأَسْرَى
سَبْعَةَ آلَافِ أَسِيرٍ مَا بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ وَصَبِيٍّ، وَمِائَةِ أَلْفِ
رَأْسٍ مِنَ الدَّوَابِّ مَا بَيْنَ فَرَسٍ وَبَغْلٍ وَحِمَارٍ وَبَقَرٍ وَغَنَمٍ،
وَأَمَّا مَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الْأَقْمِشَةِ وَالْعَيْنِ، وَالْحُلِيِّ فَيَخْرُجُ
عَنِ الْحَدِّ، وَأَخْرَبُوا بَلَدَ اللَّاذِقِيَّةِ وَمَا جَاوَرَهَا، وَلَمْ يَسْلَمْ
مِنْهَا إِلَّا الْقَلِيلُ، وَخَرَجُوا إِلَى شَيْزَرَ بِمَا مَعَهُمْ مِنَ الْغَنَائِمِ
سَالِمِينَ مُنْتَصَفَ رَجَبٍ، فَامْتَلَأَ الشَّامُ مِنَ الْأُسَارَى وَالدَّوَابِّ
(وَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ فَرَحًا عَظِيمًا) وَلَمْ
يَقْدِرِ الْفِرِنْجُ عَلَى شَيْءٍ يَفْعَلُونَهُ مُقَابِلَ هَذِهِ الْحَادِثَةِ عَجْزًا
وَوَهْنًا» اهــ.
وقال أيضا
في « الكامل في التاريخ»(9/ 459):«ذِكْرُ مِلْكِ
الْمُسْلِمِينَ شَقِيفًا مِنَ الْفِرِنْجِ»، فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَيْضًا، فِي صَفَرٍ،
فَتَحَ الْمُسْلِمُونَ بِالشَّامِ شَقِيفًا مِنَ الْفِرِنْجِ، يُعْرَفُ بِحَبْسِ جَلْدِكَ،
وَهُوَ مِنْ أَعْمَالِ طَبَرِيَّةَ، مُطِلٌّ عَلَى السَّوَادِ.
وَسَبَبُ فَتْحِهِ
أَنَّ الْفِرِنْجَ لَمَّا بَلَغَهُمْ مَسِيرُ صَلَاحِ الدِّينِ مِنْ مِصْرَ إِلَى الشَّامِ
جَمَعُوا لَهُ، وَحَشَدُوا الْفَارِسَ وَالرَّاجِلَ، وَاجْتَمَعُوا بِالْكَرَكِ، بِالْقُرْبِ
مِنَ الطَّرِيقِ، لَعَلَّهُمْ يَنْتَهِزُونَ فُرْصَةً، أَوْ يَظْفَرُونَ بِنُصْرَةٍ،
وَرُبَّمَا عَاقُوا الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْمَسِيرِ بِأَنْ يَقِفُوا عَلَى بَعْضِ الْمَضَايِقِ،
فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ خَلَتْ بِلَادُهُمْ مِنْ نَاحِيَةِ الشَّامِ، فَسَمِعَ فَرْخَشَاهَ
الْخَبَرَ، فَجَمَعَ مَنْ عِنْدَهُ مِنْ عَسَاكِرِ الشَّامِ، ثُمَّ قَصَدَ بِلَادَ
الْفِرِنْجِ وَأَغَارَ عَلَيْهَا، وَنَهَبَ دَبُورِيَّةَ وَمَا يُجَاوِرُهَا مِنَ الْقُرَى،
وَأَسَرَ الرِّجَالَ وَقَتَلَ فِيهِمْ وَأَكْثَرَ وَسَبَى النِّسَاءَ، وَغَنِمَ الْأَمْوَالَ،
وَفَتَحَ مِنْهُمُ الشَّقِيفَ، وَكَانَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْهُ أَذَىً شَدِيدٌ،
فَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِفَتْحِهِ فَرَحًا عَظِيمًا، وَأَرْسَلَ إِلَى صَلَاحِ الدِّينِ
بِالْبِشَارَةِ، فَلَقِيَهُ فِي الطَّرِيقِ، فَفَتَّ ذَلِكَ فِي عَضُدِ الْفِرِنْجِ،
وَانْكَسَرَتْ شَوْكَتُهُمْ» .اهــ
وفي« تاريخ ابن الوردي (2/ 256) قال رحمه الله :«وصلت
الْأَخْبَار باستقرار أبي سعيد بن خربنده فِي مملكة وَالِده وعمره إِحْدَى عشرَة سنة
ران أَرْبَاب دولتهم مصادرون مطلوبون بالأموال، وَأَن خربنده سم وَقتل جمَاعَة مِمَّن
اتهمَ بذلك من الرِّجَال وَالنِّسَاء، وَتَوَلَّى تَدْبِير الدولة والجيوش الْأَمِير
جوبان، وَاسْتمرّ فِي الوزارة عَليّ شاه التبريزي وَوصل الْخَبَر فِي التَّارِيخ الْمَذْكُور
أَن الْأَمِير حميضة بن أبي نمى الحسني الْمَكِّيّ كَانَ قد لحق بخربنده وَأقَام فِي
بِلَاده أشهراً وَطلب مِنْهُ جَيْشًا يَغْزُو بهم مَكَّة وساعده جمَاعَة من الرافضة
على ذَلِك فجهزوا لَهُ جَيْشًا من خُرَاسَان واهتموا بذلك فَقدر الله موت خربنده وَبَطل
ذَلِك وَفَرح الْمُسلمُونَ بِمَوْتِهِ وبإهانة ... فِي بِلَاده، وعادت الْخطب يذكر
الشَّيْخَيْنِ ... فَلَقَد كَانَ أهل السّنة بِهِ فِي غم شَدِيد، وَجَرت فتن وحروب
بِسَبَب ذَلِك بأصفهان وبغداد وإربل وَغَيرهَا». اهــ.
وقال
السيوطي رحمه الله في «الحاوي للفتاوي» (1/ 146):«وَقَالَ
ابن فرحون: صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِقَتْلِ مَنْ لَا يَزُولُ فَسَادُهُ إِلَّا بِالْقَتْلِ
وَذَكَرُوا ذَلِكَ فِي اللُّوطِيِّ إِذَا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ يُقْتَلُ تَعْزِيرًا.
وَفِي مُعْجَمِ الْأُدَبَاءِ لياقوت الحموي أَنَّ نُورَ الدِّينِ الشَّهِيدَ لَمَّا
فَتَحَ الْمَدْرَسَةَ الْكَبِيرَةَ بِحَلَبَ اسْتَدْعَى البرهان البلخي إمام الحنفية
فِي زَمَانِهِ فَأَلْقَى فِيهَا الدَّرْسَ وَكَانَ الْأَذَانُ بِحَلَبَ عَلَى قَاعِدَةِ
الشِّيعَةِ يُزَادُ فِيهِ حَيَّ عَلَى خَيْرِ الْعَمَلِ مُحَمَّدٌ وعلي خَيْرُ الْبَشَرِ،
فَلَمَّا سَمِعَ البلخي ذَلِكَ أَمَرَ الْفُقَهَاءَ فَصَعِدُوا الْمَنَارَةَ وَقْتَ
الْأَذَانِ وَقَالَ لَهُمْ: مُرُوا الْمُؤَذِّنِينَ يُؤَذِّنُوا الْأَذَانَ الْمَشْرُوعَ
وَمَنِ امْتَنَعَ مِنْهُمْ أَلْقُوهُ مِنْ فَوْقِ الْمَنَارَةِ عَلَى رَأْسِهِ فَفَعَلُوا
فَلَمْ يَعُدْ أَحَدٌ يُؤَذِّنُ عَلَى ذَلِكَ.
وَقَالَ ابن
كثير فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَسَبْعِمِائَةٍ: بَرَزَتِ الْمَرَاسِيمُ السُّلْطَانِيَّةُ
الْمُظَفَّرِيَّةُ بيبرس إِلَى نُوَّابِ الْبِلَادِ السَّاحِلِيَّةِ بِإِبْطَالِ الْخُمُورِ
وَتَخْرِيبِ الْحَانَاتِ فَفُعِلَ ذَلِكَ وَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ
فَرَحًا كَثِيرًا وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَقَالَ الذهبي
فِي الْعِبَرِ فِي سَنَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ: خُرِّبَ الْبَازَارُ
الْمُعَدُّ لِلْفَاحِشَةِ بِبَغْدَادَ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ، وَمَا يَعْلَمُ
مَا غُرِمَ عَلَى بِنَائِهِ إِلَّا الله - تَعَالَى مِنْ عِظَمِهِ - وَلِلَّهِ الْحَمْدُ،
وَقَالَ غَيْرُهُ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ: خَرَّبَ آلُ مَلِكٍ
نَائِبُ السَّلْطَنَةِ خِزَانَةَ النُّبُوذِ وَأَرَاقَ خُمُورَهَا وَكَانَتْ دَارَ
فِسْقٍ وَفُجُورٍ، وَقَالَ الحافظ ابن حجر فِي إِنْبَاءِ الْغُمْرِ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ
وَسَبْعِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ: شَدَّدَ منجك نائب الشام عَلَى أَهْلِ اللهوِ وَأَمَرَ
بِقَطْعِ الْأَشْجَارِ الصَّفْصَافِ الَّتِي بَيْنَ النَّهْرَيْنِ وَبِتَحْرِيقِ الْمَكَانِ
الَّذِي بِالسُّوقِ الْأَعْلَى وَأَزَالَ الْمُنْكَرَاتِ مِنْهُ، وَمِنَ الَّذِي فَوْقَ
الْجِهَةِ وَهَدَمَ الْأَبْنِيَةَ وَالْحَوَانِيتَ الَّتِي هُنَاكَ». اهــ
وقال ابن
الوزير رحمه الله في «العواصم والقواصم» (3/ 240):«قال الذهبي في
كتابه « ميزان الاعتدال في نقد الرجال » ما
لفظه: «مروان بن الحكم له أعمال موبقة، نسأل الله السلامة، رمى طلحةَ بسهمٍ، وفعل و
فعل. انتهى بلفظه في « الميزان » وذكره في « النبلاء » ،وساق من أخباره حتى قال ما
لفظه: وَحَضَر الوقعةَ يَوْمَ الجَمَلِ، فقتل طلحَةَ، ونجا فليتَه ما نجا ، هذا لفظ الذهبي. فلو كان عنده مِنْ
أهل الصَّلاح ما تَمنَّى له الهلاك، وكره له النَّجاة، وقد نَصَّ في « الميزان » على أن له أعمالاً مُوبِقَة، وهذا تصريحٌ بفسقه».
اهــ وانظر ترجمة مروان من الميزان والسير
وقال
العلامة الشوكاني رحمة الله في «أدب الطلب ومنتهى الأدب» (ص: 84):«وَلَقَد
رَأينَا هَؤُلَاءِ الَّذين يسخطون على السّنة المطهرة ويعاون من اشْتغل بهَا وَعَكَفَ
عَلَيْهَا يسمع أحدهم فِي الْمَسَاجِد والمدارس عُلُوم الفلسفة وَسَائِر عُلُوم غير
الشَّرِيعَة يَقْرَأها الطّلبَة على الشُّيُوخ فَلَا يُنكر ذَلِك وَلَا يرى بِهِ بَأْسا
فَإِذا سمع حَدثنَا فلَان عَن فلَان قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
كَانَ هَذَا أَشد على سَمعه من علم أرسطو طاليس وأفلاطون وجالينوس بل أثقل على سَمعه
من فِرْعَوْن وهامان
فقبح الله أهل الْبدع
وقلل عَددهمْ وأراح مِنْهُم فَإِنَّهُم أضرّ
على الشَّرِيعَة من كل شَيْء قد شغلوا أنفسهم بمسائل مَعْرُوفَة هِيَ رَأس مَذْهَبهم
وأساسه وَتركُوا مَا عدا ذَلِك وعابوه وعادوا أَهله». اهــ
أقول: هذه
مقتطفات تبين المقصود ومن تتبعها سيجد بإذن الله كثيرًا من هذا المواقف التي يفرح
فيها المسلمون بزوال الشرور وأهل الشرور والفتن في سائر العصور والأمصار.
فائدة :
قال شيخ الإسلام
كما في الفتاوى الكبرى (3/344) :« أَمَّا مَنْ كَانَ مُظْهِرًا لِلْفِسْقِ
مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الْإِيمَانِ كَأَهْلِ الْكَبَائِرِ ، فَهَؤُلَاءِ لَا بُدَّ أَنْ
يُصَلِّيَ عَلَيْهِمْ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ .
وَمَنْ امْتَنَعَ
مِنْ الصَّلَاةِ عَلَى أَحَدِهِمْ زَجْرًا لِأَمْثَالِهِ عَنْ مِثْلِ مَا فَعَلَهُ
، كَمَا امْتَنَعَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الصَّلَاةِ عَلَى
قَاتِلِ نَفْسِهِ ، وَعَلَى الْغَالِّ ، وَعَلَى الْمَدِينِ الَّذِي لَا وَفَاءَ لَهُ
، وَكَمَا كَانَ كَثِيرٌ مِنْ السَّلَفِ يَمْتَنِعُونَ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَى أَهْلِ
الْبِدَعِ - كَانَ عَمَلُهُ بِهَذِهِ السُّنَّةِ حَسَنًا .
وَقَدْ قَالَ
لِجُنْدَبِ بْنِ عَبْدِ الله الْبَجَلِيِّ ابْنُهُ : إنِّي لَمْ أَنَمْ الْبَارِحَةَ
بَشَمًا ، فَقَالَ : أَمَا إنَّك لَوْ مِتّ لَمْ أُصَلِّ عَلَيْك .كَأَنَّهُ يَقُولُ
: قَتَلْت نَفْسَك بِكَثْرَةِ الْأَكْلِ .
وَهَذَا مِنْ
جِنْسِ هَجْرِ الْمُظْهِرِينَ لِلْكَبَائِرِ حَتَّى يَتُوبُوا ، فَإِذَا كَانَ في ذَلِكَ
مِثْلُ هَذِهِ الْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ كَانَ ذَلِكَ حَسَنًا ، وَمَنْ صَلَّى عَلَى
أَحَدِهِمْ يَرْجُو لَهُ رَحْمَةَ الله ، وَلَمْ يَكُنْ امْتِنَاعُهُ مَصْلَحَةً رَاجِحَةً
، كَانَ ذَلِكَ حَسَنًا
وَلَوْ امْتَنَعَ فِي الظَّاهِرِ وَدَعَا لَهُ فِي
الْبَاطِنِ لِيَجْمَعَ بَيْنَ الْمَصْلَحَتَيْنِ كَانَ تَحْصِيلُ الْمَصْلَحَتَيْنِ
أَوْلَى مِنْ تَفْوِيتِ إحْدَاهُمَا .
وَكُلُّ مَنْ
لَمْ يُعْلَمْ مِنْهُ النِّفَاقُ وَهُوَ مُسْلِمٌ يَجُوزُ الِاسْتِغْفَارُ لَهُ ، وَالصَّلَاةُ
عَلَيْهِ ، بَلْ يُشْرَعُ ذَلِكَ ، وَيُؤْمَرُ بِهِ .
كَمَا قَالَ
تَعَالَى : { وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِك وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } وَكُلُّ
مَنْ أَظْهَرَ الْكَبَائِرَ فَإِنَّهُ تُسَوَّغُ عُقُوبَتُهُ بِالْهَجْرِ وَغَيْرِهِ
، حَتَّى مِمَّنْ فِي هَجْرِهِ مَصْلَحَةٌ لَهُ رَاجِحَةٌ فَتَحْصُلُ الْمَصَالِحُ
الشَّرْعِيَّةُ فِي ذَلِكَ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ ، وَالله أَعْلَمُ ».اهـــ
وقال الشيخ زيد بن هادي المدخلي – رحمه الله- في(حكم
الترحّم على مخالفي السنة، وأهل البدع)
السؤال :أحسن
الله إليك، ما حكم الدعاء على أهل البدع ،والترحّم عليهم ؟
وهل تكرار الطعن
في أهل البدع يُعتبر من الغيبة المحرمة ؟
الجواب : أهل
البدع على قسمين :
أهل بدع كفرية
، يعنى: بدعهم تكفّرهم وتخرجهم من الإسلام؛ كالقبوريين ، عباد القبور ، والمستغيثين
بالأولياء -وغيرهم- ممن يسب الدين ، -ونحو ذلك من البدع التى هى كفر- ؛ فهؤلاء لا خير
فيهم ، ويُدعى عليهم؛ لأنهم كفار .
وأهل بدع فسقة
من الفساق ،ليسوا كفاراً -كأهل الحزبيات، والمنظمات المخالفة لمنهج أهل السنة والجماعة
في باب الجهاد ، وفى باب النصيحة ، وفى باب الأمر بالمعروف ، وفى باب الولاء -ونحو
ذلك- ؛ فهؤلاء نعم يُدعى لهم بالهداية.
فإذا ماتوا وهم
على الإسلام: لا حرج من أن يُترحّم عليهم ، فيقول: رحمه الله .
لكن ؛ لا يعلن
ويشهر تحسّره عليه ؛ لأن صاحب البدعة من أعداء أهل السنة ، فلا يُظهر أهلُ السنة الأسفَ
عليه ؛ لأن موته خير لأهل الأرض من بقائه ، فبحكم الإسلام: له أن يترحّم عليه بينه
وبين نفسه ، فلا يُعلن ذلك ؛ لأن خطر أهـل البدع واضح ومعلوم على أهل السنة ومحاربتهم
لها .
ثم الكلام فيهم
من أجل التحذير من بدعهم و الاغترار بأهوائهم هذا ليس من الغيبة المحرمة ،وإنما هو
من النصيحة للمسلمين ، ولهذا جاء رجل إلى الإمام أحمد –
رحمه الله – فقال: يا أبا عبد الله إنه يشق علىَّ أن أقول: فلان
كذا.. وفلان كذا من أهل البدع ، قال :إذا سكتّ أنت وسكتّ أنا؛ فمتى يتبين الحق للجاهل؟!
لابد من البيان
.
اذكُرْهم بما
هم فيه من الجرح والبدع المخالفة للسنن ، فليس لهم غيبة ؛لأنهم هم السبب في مخالفتهم
لأهل السنة والجماعة ، فالكلام فيهم نصيحة .
على المتكلم
أن يكون عالماً ببدعهم مطلعاً عليها ، وأن يكون عارفاً بالسنة ، وأن يكون مخلصاً وقاصداً
وجه الله بالكلام فيهم ليحذرهم الناس فيسلموا من بدعهم.
وكثيراً ما تجد
العلماء الأفاضل يحذّرون من أهل البدع ،ويوصون الناس بالابتعاد منهم ، حتى إن بعضهم
يقول -وهو إمام-: " آكل عند اليهودي والنصراني ولا آكل عند صاحب بدعة " ،وما
ذلك إلا لشدة خطر المبتدع.
والسلف يهجرونهم
أحياءً وأمواتاً)اهــ. والفتوى مشهورة منشورة
وسُئل العلامة
عبدالمحسن بن حمد العبَّاد البدر حفظه الله عن مقتل
الخارجي أسامة بن لادن الموافق لـيوم الأثنين 28/5/1432هـ بعد صلاة العشاء
السؤال: ما
هو القول الوسط في مقتل أسامة بن لادن فهناك من فرح بمقتله, وهناك من قال إنه كان
مجاهداً وحكم له بالشهادة؟
أجاب شيخنا:
كيف مجاهد؟! نعم هو مجاهد في سبيل الشيطان. أسامة بن لادن جلب شراً عظيماً على
المسلمين ولا شك أن ذهابه فيه راحة لهم, يرتاح الناس بذهابه» اهــ والفتوى نقلها
أحد طلابه وهي منشورة ومشهورة
أخيرا لو قال
قائل: كيف تفرحون بموت أهل الباطل وقد
جاء من
حديث عائشة رَضِيَ الله عَنْهَا، أنها قَالَتْ:
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لاَ تَسُبُّوا الأَمْوَاتَ، فَإِنَّهُمْ
قَدْ أَفْضَوْا إِلَى مَا قَدَّمُوا» رواه البخاري. والفرح بموتهم إهانة لهم وهم
قد أفضوا إلى ما قدموا
الجواب:
قال ابن
بطال رحمه الله في «شرح صحيح البخاري »(3 / 354) :«قال
عبد الواحد: إن قال قائل: حديث أنس يعارضه قوله صلى الله عليه وسلم في باب ما ينهى
عنه من سب الأموات: (لا تسبوا الأموات، فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا) . قيل له: حديث
أنس هذا يجرى مجرى الغيبة في الأحياء، فإن كان الرجل أغلب أحواله الخير، وقد تكون منه
الفلتة، فالاغتياب له محرم، وإن كان فاسقًا معلنًا فلا غيبة فيه. فكذلك الميت إذا كان
أغلب أحواله الخير لم يجز ذكر ما فيه من شر ولا سبه به، وإن كان أغلب أحواله الشر فيباح
ذكره منه، وليس ذلك مما نهى عنه من سب الأموات، ويؤيد ذلك ما أجمع عليه أهل العلم من
ذكر الكذابين وتجريح المجرَّحين ».اهــ
وقال
المناوي رحمه الله في «فيض القدير»(1/ 115)«-تنبيه- هذا
الحديث وما بعده شامل للفاجر الميت ولا ينافيه النهي عن سب الأموات في الخبر الآتي
لأن السب غير الذكر بالشر وبفرض عدم المغايرة فالجائز سب الأشرار والمنهي سب الأخيار
ذكره الكرماني وغيره» اهـــ
وقال
صاحب «عون المعبود» (13 / 166) :«(اذْكُرُوا) أَيْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ
(مَحَاسِنَ مَوْتَاكُمْ) جَمْعُ حُسْنٍ عَلَى غَيْرِ الْقِيَاسِ وَمَوْتَى جَمْعُ مَيِّتٍ
(وَكُفُّوا) أَيِ امْتَنِعُوا (عَنْ مَسَاوِيهِمْ) جَمْعُ سُوءٍ عَلَى غَيْرِ الْقِيَاسِ
وَقِيلَ جَمْعُ مَسْوًى بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالْوَاوِ، وَالْمَعْنَى لَا تَذْكُرُوهُمْ
إِلَّا بِخَيْرٍ
قَالَ الْعَلْقَمِيُّ
قَالَ شَيْخُ شُيُوخِنَا وَالْأَصَحُّ مَا قِيلَ فِي ذَلِكَ أَنَّ أَمْوَاتَ الْكُفَّارِ
وَالْفُسَّاقِ يَجُوزُ ذِكْرُ مَسَاوِيهِمْ لِلتَّحْذِيرِ مِنْهُمْ وَقَدْ أَجْمَعَ
الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ جَرْحِ الْمَجْرُوحِينَ مِنَ الرُّوَاةِ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا
»انْتَهَى
وقال العلامة العثيمين في «شرح
رياض الصالحين» (6 / 230) :«قال المؤلف
رحمه الله في كتاب (رياض الصالحين) : باب تحريم سب الأموات بغير حق أو مصلحة شرعية.
...أو مصلحة
شرعية مثل أن يكون هذا الميت صاحب بدعة ينشرها بين الناس فهنا من المصلحة أن نسبه ونحذر
منه ومن طريقته لئلا يغتر الناس به». اهــ
وبهذا القدر
-بإذن الله- يتبين هذا الأمر الذي من أجله كتبنا هذا الموضوع؛ أن الفرح بزوال الشر
وأهله وأعوانه ومناصريه غير معيب ولا
مخالف للشرع، وأن عليه أدلته من الكتاب والسنة، وعليه فعل سلفنا الصالح رضوان الله
عليهم أجمعين.
فنسأل الله
أن ينفع بهذا كاتبه وقارئه وأن يجعله ذخرًا لنا عند الله عز وجل
والحمد لله
رب العالمين
كتبه
أبو حمزة
محمد بن حسن السوري
غفر الله له
ولوالديه
عصر السبت
10 من جمادى الآخر 1437هجرية
مكة المكرمة
حرسها الله
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.