"الأرواح جنود مجندة"
بسم الله
الرحمن الرحيم
الحمد
لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على المبعوث رحمة للعالمين، محمد سيد الأولين
والآخرين، وعلى آله وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فقد ذكر الإمام البخاري
رحمه الله في صحيحه معلقا برقم (3336):عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ الله عَنْهَا،
قَالَتْ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «الأَرْوَاحُ
جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ».
ووصله في "الأدب
المفرد" (1/309،310) برقم (900):فقال حَدَّثَنَا عَبْدُ الله قَالَ:
حَدَّثَنِي اللَّيْثُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
«الْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ
مِنْهَا اخْتَلَفَ".
حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ قَالَ: حَدَّثَنَا
يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ،
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
مِثْلَهُ.
قال الشيخ الألباني
في تحقيقه" صحيح"
ورواه الإمام
مسلم رحمه الله في صحيحه برقم (2638): عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه ، بِحَدِيثٍ يَرْفَعُهُ، قَالَ: «النَّاسُ مَعَادِنُ
كَمَعَادِنِ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ، خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ
فِي الْإِسْلَامِ إِذَا فَقُهُوا، وَالْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، فَمَا تَعَارَفَ
مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ».
وروى الإمام أبوداود رحمه الله في "سننه" (4265)، والترمذي في "جامعه" (2378):عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
قَالَ: «الرَّجُلُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ».
قال الإمام
الوادعي هذا حديث حسن "الجامع الصحيح" (6/109).
أقول: هذا من سنن الله عز وجل في
خلقه؛ أن تجتمع الأرواح مع أشباهها وأمثالها وأصنافها ونظرائها، الكافر مع الكافر
، والمؤمن مع المؤمن ، والمنافق مع المنافق، والعاصي مع العاصي ، والفاسد مع الفاسد
وهكذا.
ولذلك بين
الله سبحانه تعالى شأن المؤمنين وتآلفهم مع بعضهم البعض:
قال
تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ
فِي سَبِيلِ الله وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ
بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ
شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ
إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
} [الأنفال: 72].
ويقول
الله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ
بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ
وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ الله وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ
سَيَرْحَمُهُمُ الله إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [التوبة: 71].
وقال
تعالى: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ
حَسْبَكَ الله هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ
بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ
قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ الله أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [الأنفال:
62، 63].
وكذلك بين
الله سبحانه وتعالى ذلك في حال الكافرين والمنافقين وأهل الشر مع بعضهم:
قال
تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا
تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ
يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ الله لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ
(51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى
أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى الله أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ
عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ } [المائدة:
51، 52].
ويقول
الله تعالى : {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ
أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ
} [الأنفال: 73].
ويقول
الله تعالى : { إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ
مِنَ الله شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالله وَلِيُّ
الْمُتَّقِينَ (19) هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ
} [الجاثية: 18 - 20].
قال ابن
الأثير في "النهاية " (1/ 305(
فِيهِ
«الأرْوَاح جُنُود مُجَنَّدَة، فَمَا تَعَارَفَ مِنها ائتَلَف، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا
اخْتَلف» مُجَنَّدَة: أَيْ مَجْمُوعَة، كَمَا يُقال ألُوف مُؤلَّفَة، وقنَاطِيرُ مُقَنْطَرَة،.. اهـــ
وقال
القاضي عياض في "إكمال المعلم بفوائد مسلم" (8/ 118):وقوله: " الأرواح جنود مجندة " أي أجناس مجنسة
" فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف ": قيل: معنى " أجناد
مجندة ": أي جموع مجمعة، وقيل: أجناس مختلفة. هذا التعارف لأمر جعله الله فيها
وجبلها عليه، وأشبه ما فيه أن يكون تعارفها موافقة صفاتها التي خلقت عليها، وتشابهها
في شيمها التي خلقت بها. اهــ
وقال الحافظ
ابن حجر في "فتح الباري"( 6/370): "قوله
جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ أَيْ أَجْنَاسٌ مُجَنَّسَةٌ أَوْ جُمُوعٌ مُجَمَّعَةٌ قَالَ
بن الْجَوْزِيِّ وَيُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا
وَجَدَ مِنْ نَفْسِهِ نُفْرَةً مِمَّنْ لَهُ فَضِيلَةٌ أَوْ صَلَاحٌ فَيَنْبَغِي أَنْ
يَبْحَثَ عَنِ الْمُقْتَضِي لِذَلِكَ لِيَسْعَى فِي إِزَالَتِهِ حَتَّى
يَتَخَلَّصَ مِنَ الْوَصْفِ الْمَذْمُومِ وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي عَكْسِهِ
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ الْأَرْوَاحُ وَإِنِ اتَّفَقَتْ فِي كَوْنِهَا أَرْوَاحًا
لَكِنَّهَا تَتَمَايَزُ بِأُمُورٍ مُخْتَلِفَةٍ تَتَنَوَّعُ بِهَا فَتَتَشَاكَلُ
أَشْخَاصُ النَّوْعِ الْوَاحِدِ وَتَتَنَاسَبُ بِسَبَبِ مَا اجْتَمَعَتْ فِيهِ
مِنَ الْمَعْنَى الْخَاصِّ لِذَلِكَ النَّوْعِ لِلْمُنَاسَبَةِ وَلِذَلِكَ
نُشَاهِدُ أَشْخَاصَ كُلِّ نَوْعٍ تَأْلَفُ نَوْعَهَا وَتَنْفِرُ مِنْ
مُخَالِفِهَا ثُمَّ إِنَّا نَجِدُ بَعْضَ أَشْخَاصِ النَّوْعِ الْوَاحِدِ
يَتَآلَفُ وَبَعْضُهَا يَتَنَافَرُ وَذَلِكَ بِحَسَبِ الْأُمُورِ الَّتِي يَحْصُلُ
الِاتِّفَاقُ وَالِانْفِرَادُ بِسَبَبِهَا. اهــ
وقال شيخ
الإسلام رحمه الله كما في "مجموع الفتاوى" (5/ 253):
"وَ{الْأَرْوَاحُ
جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ}
وَتَعَارُفُهَا:تَنَاسُبُهَا وَتَشَابُهُهَا فِيمَا تَعْلَمُهُ وَتُحِبُّهُ وَتَكْرَهُهُ.
اهــ
وقال شيخ
الإسلام رحمه الله كما في "مجموع الفتاوى" (7/ 63):
وَقَالَ:
{الْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ؛ فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ وَمَا تَنَاكَرَ
مِنْهَا اخْتَلَفَ} . وَقَالَ: {الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ
مَنْ يُخَالِلْ} . وَزَوْجُ الشَّيْءِ نَظِيرُهُ وَسُمِّيَ الصِّنْفُ زَوْجًا؛ لِتَشَابُهِ
أَفْرَادِهِ كَقَوْلِهِ: {أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} . وَقَالَ:
{وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} . قَالَ غَيْرُ
وَاحِدٍ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ: صِنْفَيْنِ وَنَوْعَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ: السَّمَاءُ
وَالْأَرْضُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَاللَّيْلُ وَالنَّهَارُ؛ وَالْبَرُّ وَالْبَحْرُ
وَالسَّهْلُ وَالْجَبَلُ وَالشِّتَاءُ وَالصَّيْفُ وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ؛ وَالْكُفْرُ
وَالْإِيمَانُ وَالسَّعَادَةُ وَالشَّقَاوَةُ وَالْحَقُّ وَالْبَاطِلُ وَالذَّكَرُ
وَالْأُنْثَى وَالنُّورُ وَالظُّلْمَةُ وَالْحُلْوُ وَالْمُرُّ وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ
. اهـــ
وَقَدْ
ثَبَتَ فِي «الصَّحِيحِ» عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ
قَالَ: «الْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ،
وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ» وَفِي «مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ»
وَغَيْرِهِ فِي سَبَبِ هَذَا الْحَدِيثِ: أَنَّ امْرَأَةً بِمَكَّةَ كَانَتْ
تُضْحِكُ النَّاسَ، فَجَاءَتْ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَنَزَلَتْ عَلَى امْرَأَةٍ
تُضْحِكُ النَّاسَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«الْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ» الْحَدِيثَ .
وَقَدِ
اسْتَقَرَّتْ شَرِيعَتُهُ سُبْحَانَهُ أَنَّ حُكْمَ الشَّيْءِ حُكْمُ مِثْلِهِ،
فَلَا تُفَرَّقُ شَرِيعَتُهُ بَيْنَ مُتَمَاثِلَيْنِ أَبَدًا، وَلَا تَجْمَعُ
بَيْنَ مُتَضَادَّيْنِ، وَمَنْ ظَنَّ خِلَافَ ذَلِكَ، فَإِمَّا لِقِلَّةِ عِلْمِهِ
بِالشَّرِيعَةِ، وَإِمَّا لِتَقْصِيرِهِ فِي مَعْرِفَةِ التَّمَاثُلِ
وَالِاخْتِلَافِ، وَإِمَّا لِنِسْبَتِهِ إِلَى شَرِيعَتِهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ
بِهِ سُلْطَانًا، بَلْ يَكُونُ مِنْ آرَاءِ الرِّجَالِ، فَبِحِكْمَتِهِ وَعَدْلِهِ
ظَهَرَ خَلْقُهُ وَشَرْعُهُ، وَبِالْعَدْلِ وَالْمِيزَانِ قَامَ الْخَلْقُ
وَالشَّرْعُ، وَهُوَ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ، وَالتَّفْرِيقُ
بَيْنَ الْمُخْتَلِفَيْنِ.
وَهَذَا
كَمَا أَنَّهُ ثَابِتٌ فِي الدُّنْيَا، فَهُوَ كَذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
قَالَ تَعَالَى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا
يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ الله فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} [الصافات:
٢٢] [الصَّافَّاتِ: ٢٢] .
قَالَ
عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ الله عَنْهُ - وَبَعْدَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ
رَحِمَهُ الله: ( «أَزْوَاجُهُمْ أَشْبَاهُهُمْ وَنُظَرَاؤُهُمْ» ) .
وَقَالَ
تَعَالَى: {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} [التكوير: ٧] [التَّكْوِيرِ: ٧] أَيْ:
قَرَنَ كُلَّ صَاحِبِ عَمَلٍ بِشَكْلِهِ وَنَظِيرِهِ، فَقَرَنَ بَيْنَ
الْمُتَحَابَّيْنِ فِي الله فِي الْجَنَّةِ، وَقَرَنَ بَيْنَ الْمُتَحَابَّيْنِ
فِي طَاعَةِ الشَّيْطَانِ فِي الْجَحِيمِ، فَالْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ شَاءَ
أَوْ أَبَى، وَفِي " مُسْتَدْرَكِ الْحَاكِمِ "، وَغَيْرِهِ عَنِ
النَّبِيِّ - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ( «لَا يُحِبُّ الْمَرْءُ قَوْمًا
إِلَّا حُشِرَ مَعَهُمْ» ) .اهـــ
وقَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ رحمه الله في كتابه "الروح"
(1/31): وَلَمْ تَزَلِ النَّاسُ قَدِيمًا
وَحَدِيثًا تَعْرِفُ هَذَا وَتُشَاهِدُهُ.
قَالَ جَمِيلُ بْنُ مَعْمَرٍ الْعُذْرِيُّ:
أَظَلُّ
نَهَارِي مُسْتَهَامًا وَتَلْتَقِي ... مَعَ اللَّيْلِ رُوحِي فِي الْمَنَامِ وَرُوحُهَا.
اهـــ
وقال الملا علي القاري في
"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" (8/ 3131...)
(عَنْ
عَائِشَةَ قَالَتْ: «قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْأَرْوَاحُ»
) أَيْ: أَرْوَاحُ الْإِنْسَانِ (جُنُودٌ) : جَمْعُ جُنْدٍ أَيْ: جُمُوعٌ (مُجَنَّدَةٌ)
: بِفَتْحِ النُّونِ الْمُشَدَّدَةِ أَيْ: مُجْتَمِعَةٌ مُتَقَابِلَةٌ، أَوْ مُخْتَلِطَةٌ
مِنْهَا: حِزْبُ الله " {أَلَا إِنَّ حِزْبَ الله هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة:
22] " وَمِنْهَا حِزْبُ الشَّيْطَانِ " {أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ
هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المجادلة: 19] " وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ جُنُودُ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الفتح: 4] إِشَارَةٌ إِلَى الْجُنْدَيْنِ حَيْثُ أَحَدُهُمَا
عُلْوِيُّ الْهِمَّةِ، وَالْآخَرُ سُفْلِيُّ الْهِمَّةِ. (فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا)
: التَّعَارُفُ جَرَيَانُ الْمَعْرِفَةِ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَالتَّنَاكُرُ ضِدُّهُ أَيْ:
فَمَا تَعْرِفُ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ قَبْلَ حُلُولِهَا فِي الْأَبْدَانِ (ائْتَلَفَ)
: بِهَمْزَةِ وَصْلٍ، ثُمَّ هَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ تُبْدَلُ أَلِفًا فِي الْوَصْلِ جَوَازًا،
وَتُبَدَلُ يَاءً حَالَ الِابْتِدَاءِ وُجُوبًا أَيْ: حَصَلَ بَيْنَهُمَا الْأُلْفَةُ
وَالرَّأْفَةُ حَالَ اجْتِمَاعِهِمَا بِالْأَجْسَادِ فِي الدُّنْيَا (وَمَا تَنَاكَرَ
مِنْهَا) أَيْ: فِي عَالَمِ الْأَرْوَاحِ (اخْتَلَفَ) أَيْ: فِي عَالَمِ الْأَشْبَاحِ،
وَالْإِفْرَادُ وَالتَّذْكِيرُ فِي الْفِعْلَيْنِ بِاعْتِبَارِ لَفْظِ مَا، وَالْمُرَادُ
مِنْهُ بِطَرِيقِ الْإِجْمَالِ.
وَالله أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ أَنَّ الْأَرْوَاحَ
الْبَشَرِيَّةَ الَّتِي هِيَ النُّفُوسُ النَّاطِقَةُ مَجْبُولَةٌ عَلَى مَرَاتِبَ
مُخْتَلِفَةٍ وَشَوَاكِلَ مُتَبَايِنَةٍ، وَكُلُّ مَا شَاكَلَ مِنْهَا فِي عَالَمِ
الْأَمْرِ فِي شَاكِلَتِهِ تَعَارَفَتْ فِي عَالَمِ الْخَلْقِ وَائْتَلَفَتْ وَاجْتَمَعَتْ،
وَكُلُّ مَا كَانَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ فِي عَالَمِ الْأَمْرِ تَنَاكَرَتْ فِي عَالَمِ
الْخَلْقِ فَاخْتَلَفَتْ وَافْتَرَقَتْ، فَالْمُرَادُ بِالتَّعَارُفِ مَا بَيْنَهُمَا
مِنَ التَّنَاسُبِ وَالتَّشَابُهِ، وَبِالتَّنَاكُرِ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ التَّنَافُرِ
وَالتَّبَايُنِ، فَتَارَةً عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ وَتَارَةً عَلَى وَجْهِ النُّقْصَانِ،
إِذْ قَدْ يُوجَدُ كُلٌّ مِنَ التَّعَارُفِ وَالتَّنَاكُرِ بِأَدْنَى مُشَاكَلَةٍ بَيْنَهُمَا
إِمَّا ظَاهِرًا وَإِمَّا بَاطِنًا، وَبِحَقِيقَةٍ يَطُولُ وَتَخَافُ مِنْ إِعْرَاضِ
الْمُلُولِ وَاعْتِرَاضِ الْفُضُولِ". اهـــ
أقول : فاتضح مما تقدم أن أهل الشر يحب بعضهم بعضا، ويرغب بعضهم في بعض، وينصر
بعضهم بعضا، ويأوي بعضهم إلى بعض ، فاليهود يحبون اليهود، والنصارى يحبون النصارى،
وأهل الأهواء والبدع بأصنافهم يحبون أهل الأهواء، كل صنف يحب صنفه، وأهل الغلو
يحبون أهل الغلو، وأهل التميع يحبون أهل التميع، و أهل المعاصي يحبون أهل المعاصي
و هكذا.
وكذلك
أهل الإيمان يحبون أهل الإيمان والصلاح ،والسلفي يحب السلفي والثابت يحب الثابت وهكذا.
و كل صنف مع صنفه في الآخرة كما كان معه في
الدنيا:
قال
تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا
يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ الله فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ
إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ } [الصافات: 22 - 24].
وقال
تعالى: { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ
أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ
كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور: 21].
فإذا
تبين المقصود واتضح المراد ، فإنه مما ينبغي الاسراع به لمن زل قدمه مع أهل الباطل
بأي صنف من أصنافهم:
1-المجاهدة
في مصاحبة أهل الخير والصلاح، ومجالستهم، وعدم البعد عنهم.
2-كثرةالتضرع
لله سبحانه وتعالى أن يأخذ بناصيته إلى مرضاته، وإلى طريق أوليائه المتقين، ومجالسة أهل الخير، و
سلوك طريق الصالحين، والبعد عن طريق أهل الغواية والفاسدين، والقلوب بين أصبعين من
أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء سبحانه وتعالى ،فيجب طلب الرحمن بصرف القلوب إلى طريق
الإيمان:
فعَنْ
أَنَسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ:
«يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ» ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ
الله، آمَنَّا بِكَ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ فَهَلْ
تَخَافُ عَلَيْنَا؟ قَالَ: «نَعَمْ، إِنَّ القُلُوبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ
الله يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ» رواه الترمذي (2140) وصححه الإمام الألباني
رحمه الله
والحمد
لله رب العالمين
كتبه
حمل المقال بصيغة
بي دي اف
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.