الجمعة

احذروا هذا التأصيل وهذا التفريق العجيب! (هذه حقوق شخصية لا علاقة لها بالدعوة)


احذروا هذا التأصيل وهذا التفريق العجيب!

(هذه حقوق شخصية لا علاقة لها بالدعوة)

بسم الله الرحمن الرحيم

وبعد:

فإن البعض يدندن، ويؤصل بتأصيل غير صحيح، مخالف للمنهج السلفي، ويرى أن من طُعن فيه بسبب ثباته، واستقامته، ودفاعه، ونفاحه عن الحق وأهله، أن هذه حقوق شخصية!، ولا ارتباط بين هذا الطعن، وبين الطعن في الدعوة السلفية!، وأنه لا يشترط في قبول توبة الطاعن، أن يعتذر، ويعلن، ويتحلل ممن طعن، وقدح فيهم حتى تقبل توبته!، وأنه يكفي أن يقول الطاعن: أتوب إلى الله واستغفره فقط!

أقول:

هذا التأصيل غير صحيح البتة، ومخالف للأدلة الشرعية، وعمل سلف الأمة، فمن طُعن فيه بسبب ثباته واستقامته، ودفاعه عن الحق وأهله، والكلام في أهل الباطل، والتحذير من البدع، والأهواء، والفتن، لا يقال إن هذه الطعون حقوق شخصية!، وأنه لا يكون طعنًا في الدعوة السلفية!، ولا يضر توبة الطاعن إذا لم يتحلل، ولم يعلن، أو يتراجع عن طعنه في المنافحين عن الحق وأهله؛ الذين طعن فيهم لأجل دفاعهم عن الحق، فهذا التفريق عجيب، وغريب!، لا دليل عليه، وسوف أذكر أدلة من كتاب الله تعالى، ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن أقوال السلف رضوان الله عليهم، يهدم هذا التأصيل وهذا التفريق:

قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِالله وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} [التوبة: 65، 66].

 قال شيخنا الإمام الوادعي رحمه الله في "الصحيح المسند من أسباب النزول" (ص: 108): "قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِالله وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} الآية 65.

 قال ابن أبي حاتم (ج4 ص63) حدثنا يونس بن عبد الأعلى حدثنا عبد الله بن وهب أخبرني هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن عبد الله بن عمر قال: قال رجل في غزوة تبوك في مجلس يوما: ما رأيت مثل قرائنا هؤلاء لا أرغب بطونا ولا أكذب ألسنة ولا أجبن عند اللقاء، فقال رجل في المجلس: كذبت ولكنك منافق لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ونزل القرآن قال عبد الله: فأنا رأيته متعلقا بحقب ناقة رسول الله تنكبه الحجارة وهو يقول يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب، ورسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: {أَبِالله وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ}

الحديث رجاله رجال الصحيح إلا هشام بن سعد فلم يخرج له مسلم إلا في الشواهد كما في "الميزان" وأخرجه الطبري من طريقه (ج10 ص172) وله شاهد بسند حسن عند ابن أبي حاتم (ج4 ص64) من حديث كعب بن مالك" اهـ.

أقول:

إن هذا المنافق الذي أنزل الله فيه قرآنا يقرأ ويتلى، طعن في حملة هذا الدين، ووصفهم بأوصاف سيئة، وسخر منهم في مجلس فيه عدد أشخاص، فغضب أحد الصحابة جدًا من هذا الطعن، وقال لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم غضب غضبًا شديدًا، وأنزل الله تعالى حكما قويا فيه في هذه الآية الكريمة؛ نصرة، وتأييدًا لهؤلاء الدعاة الصالحين رضي الله عنهم، وتحذيرا من هذا المنافق، وفعله الشنيع.

ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم هذه حقوق شخصية، ولا علاقة لها بالدعوة.

وهذا المنافق تظاهر بالتوبة، والاعتذار بالباطل، وقال (إنما كنا نخوض ونلعب) فقال الله تعال: {لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ}، فجعل الله تعالى هذا الطعن موبقًا، ومهلكًا، لهذا المنافق الذي طعن في أولياء الله حملة الكتاب والسنة.

قال الإمام الطبري رحمه الله في تفسيره: تفسير الطبري" (11/ 546): "يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ وَصَفْتُ لَكَ صِفَتَهُمْ: {لَا تَعْتَذِرُوا} [التوبة: 66] بِالْبَاطِلِ، فَتَقُولُوا: كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ. {قَدْ كَفَرْتُمْ} [التوبة: 66] يَقُولُ: قَدْ جَحَدْتُمُ الْحَقَّ بِقَوْلِكُمْ مَا قُلْتُمْ فِي رَسُولِ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ بِهِ {بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [البقرة: 109] يَقُولُ: بَعْدَ تَصْدِيقِكُمْ بِهِ وَإِقْرَارِكُمْ بِهِ" اهـ

فإذا كان هذا المنافق قال هذا الكلام في مجلس فيه عددٌ قليلٌ؛ فكيف بمن أذاع، وأشاع، وجاهر بالطعن في السلفيين -لأجل نفاحهم ودفاعهم عن المنهج السلفي_ بأبشع العبارات وأقذرها، ونشرها في العالم، وفي مواقع التواصل، وانتشرت انتشارا كبيرًا جدًا، فكيف لا يطالب بأن يعتذر، ويتوب، ويتحلل، وينشر ذلك علانية، وكما قال شيخنا العلامة يحيى بن علي الحجوري حفظه الله مرارا: الذي يخطئ علانية، يعتذر ويتراجع ويتوب علانية.

وقولكم وتأصيلكم هذا مناف لما قرره السلف رضوان الله عليهم، من أن هذا الفعل يضر صاحبه جدًا، ويخرجه من السلفية، ويجعله من أهل البدع والأهواء، بطعنه في أهل الأثر، المنافحين عن الدين، والذابين عن حياضه وأهله، فإذا كان يخرجه من السلفية، ويلحقه بأهل الأهواء، فكيف لا يكون له علاقة وارتباط كبير بالدعوة السلفية!

 وأيضا من طعن في حملة هذا الدين والمنافحين عنه، لا تصح توبته، ولا تقبل حتى يبين، ويتحلل، ويعتذر، ويتوب من طعنه في الصالحين، الذين طعن فيهم بسبب تمسكهم، ودفاعهم عن المنهج السلفي، ولا يرجع إلى السلفية إلا بذلك.

وقد قال السلف رضوان الله عليهم: إن من علامة أهل البدع الطعن في أهل الأثر:

قال الإِمام أَبو حاتم الرازي رحمه الله تعالى: "عَلامةُ أَهلِ البدَعِ الوَقيعةُ في أَهلِ الأَثَر، وعَلاَمةُ الزنادِقَة تَسْميَتُهُم أَهلَ الأَثَرِ حَشوية، يُريدونَ إِبْطالَ الآثار، وَعَلامَةُ الجهمية تَسْميَتُهم أهلَ السنة مُشبهة، وَعَلامَةُ القَدَرية تَسْميَتُهم أَهلَ السنة مُجْبِرَة، وعَلامَةُ المرجئَة تَسْميَتُهم أَهلَ السنة مُخالفة وَنُقصانية، وَعَلامَةُ الرافضَة تَسْمِيَتُهِم أَهلَ السُّنَّة ناصِبَة، ولا يَلْحقُ أَهل السنة إِلَّا اسْم وَاحِد، ويَسْتَحِيلُ أَنْ تَجْمَعَهُمْ هَذهِ الأَسْماء" اهـ

أخرجه اللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة" (ج1/ص197)، والصابوني في "عقيدة السلف أصحاب الحديث" (ص36)، وإبراهيم بن عمر المكي في "أصل السنة واعتقاد الدين" (ص: 2)

وقال أبو إسماعيل محمد بن إسماعيل الترمذي كنت أنا وأحمد بن الحسين الترمذي عند أبي عبد الله أحمد بن حنبل، فقال له أحمد بن الحسين: يا أبا عبد الله، ذكروا لابن أبي قتيلة بمكة أصحاب الحديث، فقال: أصحاب الحديث قوم سوء، فقام أبو عبد الله أحمد بن حنبل وهو ينفض ثوبه، وقال: زنديق، زنديق، زنديق، ودخل البيت اهـ

وهذا سند صحيح رجاله ثقات

أخرجه الحاكم في "معرفة علوم الحديث" (ص 4)، والخطيب البغدادي في "شرف أصحاب الحديث" (ص 137 - 138) رقم (147)، وابن أبي يعلى في: "طبقات الحنابلة" (1/ 38)، والصابوني في "عقيدة السلف" (ص 300 - 301)، وذكره ابن عبد الهادي في "بحر الدم فيمن تكلم فيه الإمام أحمد بمدح أو ذم" (ص 506) رقم (1267).

وقال الإمام أَحْمَدَ بْنَ سِنَانٍ القطان رحمه الله: "لَيْسَ فِي الدُّنْيَا مُبْتَدِعٌ إِلَا وَهُوَ يُبْغِضُ أَهْلَ الْحَدِيثِ وَإِذَا ابْتَدَعَ الرَّجُلُ بِدْعَةً نُزِعَتْ حَلَاوَةُ الْحَدِيثِ مِنْ قَلْبِهِ" اهـ

صحيح، أخرجه أبو اسماعيل الهروي في "ذم الكلام وأهله" (2/ 72)، والحاكم في "معرفة علوم الحديث" (ص 4)، والخطيب البغدادي في "شرف أصحاب الحديث" (ص 136) رقم (145)

وقال الإمام أبو عثمان الصابوني رحمه الله في "عقيدة السلف أصحاب الحديث" (ص: 35):"وعلامات البدع على أهلها بادية ظاهرة، وأظهر آياتهم وعلاماتهم شدة معاداتهم لحملة أخبار النبي صلى الله عليه وسلم، واحتقارهم لهم، وتسميتهم إياهم حشوية، وجهلة، وظاهرية، ومشبهة" اهـ

وقال السفاريني رحمه الله: «ولسنا بصدد ذكر مناقب أهل الحديث فإنَّ مناقبهم شهيرة، ومآثرهم كثيرة، وفضائلهم غزيرة، فمن انتقصهم فهو خسيس ناقص» اهـ من لوائح الأنوار" (2/ 355).

وقال ابن القيم رحمه الله:

الشاتمي أهل الحديث عداوة ******للسنة العليا مع القرآن

جعلوا مسبتهم طعام حلوقهم ******فالله يقطعها من الأذقان

كبرًا وإعجابًا وتيهًا زائدًا ****** وتجاوزًا لمراتب الإنسان

اهـ الكافية الشافية ص (138).2784

أقول: انظر إلى قوله: "عداوة للسنة" لما كانت عداوتهم، وحربهم، وتحذيرهم من أهل الحديث، من أجل تمسكهم بالسنة، ومن أجل النفاح، والدفاع، والذب عنها، جعل ابن القيم رحمه الله هذه الطعونات في أهل الحديث عداوة للسنة.

 وقال الإمام ابن قدامة رحمه الله في "المغني" (10/ 194): "وَقَدْ ذَكَرِ الْقَاضِي، أَنَّ التَّائِبَ مِنْ الْبِدْعَةِ يُعْتَبَرُ لَهُ مُضِيُّ سَنَةٍ، لِحَدِيثِ صَبِيغٍ. رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي " الْوَرَعِ "، قَالَ: وَمِنْ عَلَامَةِ تَوْبَتِهِ، أَنْ يَجْتَنِبَ مَنْ كَانَ يُوَالِيه مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ، وَيُوَالِي مَنْ كَانَ يُعَادِيه مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ التَّوْبَةَ مِنْ الْبِدْعَةِ كَغَيْرِهَا، إلَّا أَنْ تَكُونَ التَّوْبَةُ بِفِعْلٍ يُشْبِهُ الْإِكْرَاهَ، كَتَوْبَةِ صَبِيغٍ، فَيُعْتَبَرُ لَهُ مُدَّةٌ تُظْهِرُ أَنَّ تَوْبَتَهُ عَنْ إخْلَاصٍ، لَا عَنْ إكْرَاهٍ" اهـ

أقول:

انظر إلى قوله رحمه الله: "وَيُوَالِي مَنْ كَانَ يُعَادِيه مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ"، هذا الذي نشير إليه في هذه الرسالة، أنه لابد من البيان والاعتذار، والتراجع عن طعوناته في السلفيين، الذين كان يطعن ويقدح فيهم، فإن هذه علامة على صدق توبته، ورجوعه، فالولاء قائم على المحبة، والأخوة، والصدق، والاحترام، والدفاع.

وقال الإمام أبو عثمان الصابوني رحمه الله في "عقيدة السلف أصحاب الحديث" (ص: 37): "وإحدى علامات أهل السنة حبهم لأئمة السنة، وعلمائها وأنصارها وأوليائها، وبغضهم لأئمة البدع، الذين يدعون إلى النار، ويدلون أصحابهم على دار البوار، وقد زين الله سبحانه قلوب أهل السنة ونورها بحب علماء السنة فضلا منه جل جلاله" اهـ

أخيرا:

اتضح مما سبق بطلان هذا التأصيل، وهذا التفريق العجيب بينه وبين الدعوة، الذي الغرض منه اللفلفة، والتستر، والتغاضي عن أفعال وأقوال من طعن في السلفيين بسبب دفاعهم عن الحق وأهله، وأنه لابد من إعادة الحقوق إلى أهلها، والتحلل، لصدق التوبة، وقبولها، والاعتراف بذلك، ولا يكفي مجرد توبة فقط، وقوله استغفر الله:

قال الإمام البخاري رحمه الله في "صحيحه": " بَابُ مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ عِنْدَ الرَّجُلِ فَحَلَّلَهَا لَهُ، هَلْ يُبَيِّنُ مَظْلَمَتَهُ

(ثم ذكر حديث) أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عَنْهُ، أن رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قال «مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ لِأَخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَيْءٍ، فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ اليَوْمَ، قَبْلَ أَنْ لاَ يَكُونَ دِينَارٌ وَلاَ دِرْهَمٌ، إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ».

وقَالَ اَلْحَسَنُ بْنُ شَقِيق رحمه الله كُنَّا عِنْدَ اِبْنِ اَلْمُبَارَكِ إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ لَهُ: أَنْتَ ذَاكَ اَلْجَهْمِيّ ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَال: إِذْ ا خَرَجْت مِنْ عِنْدِي فَلَا تَعُدْ إِلَيَّ، قَالَ اَلرَّجُلُ: فَأَنَا تَائِبٌ، قَالَ: لَا حَتَّى يَظْهَر مِنْ تَوْبَتِكَ مِثْلُ اَلَّذِي ظَهَر مِنْ بِدْعَتِكَ" اهـ أخرجه ابن بطة العكبري رحمه الله في "الإبانة" (ص: 147).

قال الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله في "ذيل طبقات الحنابلة" (1 / 322- 324): "ففي سنة إحدى وستين اطلعوا له على كتب فيها شيء من تعظيم المعتزلة، والترحُّم على الحلاَّج وغير ذلك. ووقف على ذلك الشريف أَبُو جعفر وغيره، فاشتد ذلك عليهم، وطلبوا أذاه، فاختفى. ثم التجأ إلى دار السلطان، ولم يزل أمره في تخبيط إلى سنة خمس وستين، فحضر في أولها إلى الديوان، ومعه جماعة من الأصحاب، فاصطلحوا ولم يحضر الشريف أَبُو جعفر لأنه كان عاتبا على ولاة الأمر بسبب إنكار منكر قد سبق ذكره في ترجمته.

فمضى ابن عقيل إلى بيت الشريف وصالحه وكتب خَطّه: يقول علي بن عقيل بن محمد: إني أبرأ إلى الله تعالى من مذاهب مبتدعة الاعتزال وغيره، ومن صحبة أربابه، وتعظيم أصحابه، والترحم على أسلافهم، والتكثر بأخلاقهم. وما كنت علقته، ووُجد بخَطّي من مذاهبهم وضلالتهم فأنا تائب إلى الله تعالى من كتابته. ولا تَحل كتابته، ولا قراءته، ولا اعتقاده. وإنني علقت مسألة في جملة ذلك. وإن قوما قالوا: هو أجساد سود.

وقلت: الصحيح: ما سمعته من الشيخ أبي علي، وأنه قَالَ: هو عَدمٌ ولا يسمى جسما، ولا شيئا أصلا. واعتقدتُ أنا ذلك. وأنا تائب إلى الله تعالى منهم.

واعتقدتُ في الحلاج أنه من أهل الذَين والزُّهد والكرامات. ونصرتُ ذلك في جزء عملته. وأنا تَائب إلى الله تعالى منه، وأنه قتل بإجماع علماء عصره، وأصابوا في ذلك، وأخطأ هو. ومع ذلك فإني أستغفر الله تعالى، وأتوب إليه من مخالطة المعتزلة، والمبتدعة، وغير ذلك، والترحم عليهم، والتعظيم لهم فإن ذلك كله حرام. ولا يحل لمسلم فعله لقول النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من عظَّم صاحب بدعة فقد أعان على هَدْمِ الإسلام ".

وقد كان الشريف أَبُو جعفر، ومن كان مَعه من الشيوخ، والأتباع، سادتي وإخواني - حرسهم الله تعالى - مصيبين في الإنكار عليَّ لما شاهدوه بخالي من الكتب التي أبرأ إلى الله تعالى منها، وأتحققُ أني كنتُ مخطئا غير مصيب.

ومتى حفظ عليَّ ما ينافي هذا الخط وهذا الإقرار: فلإمام المسلمين مكافأتي على ذلك. وأشهدت الله وملائكته وأولي العلم، على ذلك غير مجبر، ولا مكرَه وباطني وظاهري -يعلم الله تعالى - في ذلك سواء. قَالَ تعالى: " وَمنْ عَادَ فَيَنتقِمُ اللهُ مِنْهُ، وَاللهُ عَزِيز ذُو انْتِقَام " [المائدة: 199].وكتب يوم الأربعاء عاشر محرم سنة خمس وستين وأربعمائة.

وكانت كتابته قبل حضوره الديوان بيوم، فلما حضَر شَهِدَ عليه جماعة كثيرة من الشهود والعلماء" اهـ.

وقال الإمام ابن القيم رحمه الله في "مدارج السالكين" (1/ 370): "فَتَوْبَةُ هَؤُلَاءِ الْفُسَّاقِ مِنْ جِهَةِ الِاعْتِقَادَاتِ الْفَاسِدَةِ بِمَحْضِ اتِّبَاعِ السُّنَّةِ، وَلَا يُكْتَفَى مِنْهُمْ بِذَلِكَ أَيْضًا حَتَّى يُبَيِّنُوا فَسَادَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْبِدْعَةِ، إِذِ التَّوْبَةُ مِنْ ذَنْبٍ هِيَ بِفِعْلِ ضِدِّهِ، وَلِهَذَا شَرَطَ الله تَعَالَى فِي تَوْبَةِ الْكَاتِمِينَ مَا أَنْزَلَ الله مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى الْبَيَانَ، لِأَنَّ ذَنْبَهُمْ لَمَّا كَانَ بِالْكِتْمَانِ، كَانَتْ تَوْبَتُهُمْ مِنْهُ بِالْبَيَانِ، قَالَ الله تَعَالَى {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ الله وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ - إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 159 - 160]

وَذَنْبُ الْمُبْتَدِعِ فَوْقَ ذَنْبِ الْكَاتِمِ، لِأَنَّ ذَاكَ كَتَمَ الْحَقَّ، وَهَذَا كَتَمَهُ وَدَعَا إِلَّا خِلَافِهِ، فَكُلُّ مُبْتَدِعٍ كَاتِمٌ وَلَا يَنْعَكِسُ.

وَشَرَطَ فِي تَوْبَةِ الْمُنَافِقِ الْإِخْلَاصَ; لِأَنَّ ذَنْبَهُ بِالرِّيَاءِ، فَقَالَ تَعَالَى {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء: 145] ثُمَّ قَالَ {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِالله وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ الله الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 146]

وَلِذَلِكَ كَانَ الصَّحِيحُ مِنَ الْقَوْلَيْنِ أَنَّ تَوْبَةَ الْقَاذِفِ إِكْذَابُهُ نَفْسَهُ، لِأَنَّهُ ضِدَّ الذَّنْبِ الَّذِي ارْتَكَبَهُ، وَهَتَكَ بِهِ عِرْضَ الْمُسْلِمِ الْمُحْصَنِ، فَلَا تَحْصُلُ التَّوْبَةُ مِنْهُ إِلَّا بِإِكْذَابِهِ نَفْسَهُ، لِيَنْتَفِيَ عَنِ الْمَقْذُوفِ الْعَارُ الَّذِي أَلْحَقَهُ بِهِ بِالْقَذْفِ، وَهُوَ مَقْصُودُ التَّوْبَةِ وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إِنَّ تَوْبَتَهُ أَنْ يَقُولَ أَسْتَغْفِرُ الله مِنَ الْقَذْفِ، وَيَعْتَرِفَ بِتَحْرِيمِهِ، فَقَوْلٌ ضَعِيفٌ لِأَنَّ هَذَا لَا مَصْلَحَةَ فِيهِ لِلْمَقْذُوفِ، وَلَا يَحْصُلُ لَهُ بِهِ بَرَاءَةُ عِرْضِهِ مِمَّا قَذَفَهُ بِهِ، فَلَا يَحْصُلُ بِهِ مَقْصُودُ التَّوْبَةِ مِنْ هَذَا الذَّنْبِ، فَإِنَّ فِيهِ حَقَّيْنِ: حَقًّا لِلَّهِ، وَهُوَ تَحْرِيمُ الْقَذْفِ، فَتَوْبَتُهُ مِنْهُ بِاسْتِغْفَارِهِ، وَاعْتِرَافِهِ بِتَحْرِيمِ الْقَذْفِ، وَنَدَمِهِ عَلَيْهِ، وَعَزْمِهِ عَلَى أَنْ لَا يَعُودَ، وَحَقًّا لِلْعَبْدِ، وَهُوَ إِلْحَاقُ الْعَارِ بِهِ، فَتَوْبَتُهُ مِنْهُ بِتَكْذِيبِهِ نَفْسَهُ، فَالتَّوْبَةُ مِنْ هَذَا الذَّنْبِ بِمَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ" اهـ

قال العلامة زيد المدخلي رحمه الله: [شروط توبة المبتدع هي الشروط المعروفة بالتتبع والاستقراء لقبول توبة كل مذنب:

الأول: الإقلاع عن الذنب.

ثانيا: الندم على ما فعله.

الثالث: العزم على عدم العود فيه.

ويزيد المبتدع على هذه الثلاثة الشروط، ما يلي:

1- البراءة المعلنة ظاهرا وباطنا، لا سيما في الأماكن التي كان ينفث فيها سموم بدعته، وعلى سمع الأفراد الذين دعاهم ليعتنقوها ويتعصبوا لها ويقوموا بنشرها حتى تصبح البدعة وتمسي كأنها سنة نبوية كريمة يحرص على الدعوة إليها والعمل بها ممن امتلأت بها قلوبهم، وتفاعلت معها جوارحهم، ومن يضلل الله فلن تجد له وليّا مرشدا.

2- أن يرّد على نفسه إن كان قد ألّف في الترغيب فيها، وفي ذم من ينتقدها، أو ينتقد دعاتها والمروجين لها، ويكون الرد صريحا وجليّاً يفهمه كل من قرأه أو سمعه، براءة للذمة ونصرا للسنة ومحبة لأهلها، وأن يستمر على ذلك حتى يأتيه من ربه اليقين.

3- أن يحرق ويتلف ما بين يديه من الوسائل التي دوّنت فيها البدع، حتى لا يبقى لها باقية يفتتن بها من يفتتن، سواء في حياة محدثها أو بعد مماته.

وأخيرا فاعلم أيها السائل: أن المبتدع شر مستطير على نفسه وعلى مجتمعه وأمته؛ فإن أعرض عن نصيحة الناصحين وجب هجره، والفرار من مجالسته وصحبته.

وقلت أيها السائل: وهل تطبق على الحزبيين في هذا العصر؟

والجواب: يجب أن تطبق الشروط على كل صاحب بدعة، ولا شك أن الحزبيين أصحاب بدع متعددة ومتنوعة، إذ منهم الخوارج، ومنهم الصوفية، ومنهم الجهال المقلدون لهؤلاء وأولئك، والواجب على الجميع التوبة إلى الله المستوفية لشروطها كل بحسب حالها] اهـ من "الأجوبة الأثرية عن المسائل المنهجيَّة خمسون سؤالا وجوابا" (ص104).

والحمد لله رب العالمين

كتبه أبو حمزة محمد بن حسن السِّورِي

الخميس 4من رجب 1444هجرية

حمل الرسالة بصيغة بي دي اف 

من هنــــــا

 



نبذة عن الكاتب

المساعد العربي موقع عربي يهدف إلى نشر تصاميم مجانية لمساعدة المدونين المبتدئينالمساعد العربي موقع عربي يهدف إلى نشر تصاميم مجانية لمساعدة المدونين المبتدئينالمساعد العربي موقع عربي يهدف إلى نشر تصاميم مجانية لمساعدة المدونين المبتدئين


يمكنك متابعتي على : الفيسبوك

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.

^ إلى الأعلى