الأربعاء

[تذكير الآباء بأهمية الدعاء للأبناء]

تذكير الآباء بأهمية الدعاء للأبناء

كتبه: أبو حمزة محمد بن حسن السِّوري

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد الذي خلق فسوى، والذي قدر فهدى، والذي أخرج المرعى،  فجعله غثاء أحوى، والصلاة والسلام  على النبي المصطفى وإمام الأتقياء، وعلى آله وأصحابه الأوفياء، أهل البر والتقوى ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم البعث جمعا.

أما بعد:
فهذا موضوع أحببت أن أحتف به أهل الإيمان والتقوى؛ لأهمية ومكانته، وتغافل الكثير من المسلمين عنه، مع أنه والله من أهم الأمور، وأنفعها على الفرد والأسرة والمجتمع، فبسببه -بإذن الله تعالى -يحصل الخير، ويصلح الفرد ويلقى الخير و الهداية والسداد في دنياه  وأخراه- بإذن رب العالمين .
ألا وهو الدعاء للأبناء بالخير وبالصلح وبالسداد، فهذا الأمر يغافل عنه الكثير من الآباء، وقد رأينا وسمعنا وشاهدنا بركة هذا الأمر، وحدّث الكثير ممن رزقهم الله دعاء آبائهم لهم، أنهم وجدوا الخير -بفضل الله تعالى- ولمسوه وشاهدوا على أنفسهم وعلى ذرياتهم، ونسمع دائما من يقول:« دعوة ولا ميراث»، أي دعوة أمٍ أو أبٍ صالحٍ  لولدهم خير له من ميراث يتركونه له ،لا يستفد منه كثير شيءٍ.

وقبل بيان هذا أتطرق لبعض الأمور :

الأولاد نعمة من الله تعالى

 نعم الأولاد نعمة عظيمة من الله تعالى، يمُنُ بهم على من شاء من خلقه، ويُحرمُ من شاء من خلقه، وقد جاءت الأدلة الكثيرة على هذه النعمة ومن ذلك:

*قال الله تعالى : {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا } [الكهف: 46]
قال الإمام القرطبي رحمه الله في "تفسيره" (10/ 413)« وَإِنَّمَا كَانَ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، لِأَنَّ فِي الْمَالِ جَمَالًا وَنَفْعًا، وَفِي الْبَنِينَ قُوَّةً وَدَفْعًا، فَصَارَا زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ».اهــ
 وقال الطيبي  رحمه الله في "شرح المشكاة" (10/ 3277): «أقول: ويمكن أن يعبر عن المال بالدنيا، لأنه أعظم زينتي الحياة الدنيا. لقوله تعالى: {المال والبنون زينة الحياة الدنيا}....»اهـــ
*وقال تعالى: {لله مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ } [الشورى: 49، 50].
وروى الإمام الحاكم في « مستدركه» ( 2 / 284 )، والبيهقي في «الكبرى»( 7 / 480 ) عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن أولادكم هبة الله لكم يهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذكور ، فهم وأموالهم لكم إذا احتجتم إليها». والحديث صححه الإمام الألباني في " السلسلة الصحيحة " (2564).
قال الماوردي رحمه الله  في  "تفسيره" (7/ 359):« والولد وولد الولد فضل منه وعطية وغنيمة؛ لأنه سمى الولد: هبة بقوله: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ}، وسمى الولد: مواهب، وخاصة إبراهيم لم يكن يطمع أن يولد له الولد في ذلك الوقت، فكيف يطمع ولد الولد؟!» اهــ
وقال أيضًا في "تفسيره"(8/ 577):« ثم فيه دلالة أن الولد هبة الله لهم وعطاء لهم؛ ولذلك قال: {ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً}، {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ}..." اهـ
وقال أيضا في  "تفسيره" (9/ 140):«وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ} يخبر - تعالى - أن الأولاد جميعًا من الذكور والإناث مواهب الله - تعالى - وهداياه، فيجب أن يقبلوها منه قبول الهدايا والهبات على الشكر له والمنة.....» اهــ
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: في "تحفة المودود" (ص: 20): «فقسم سُبْحَانَهُ حَال الزَّوْجَيْنِ إِلَى أَرْبَعَة أَقسَام؛ اشْتَمَل عَلَيْهَا الْوُجُود، وَأخْبر أَن مَا قدره بَينهمَا من الْوَلَد فقد وهبهما إِيَّاه، وَكفى بِالْعَبدِ تعرضا لمقته أَن يتسخط مَا وهبه ». اهــ
*وقال تعالى ممتنا على داوود عليه السلام {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 30]
قال الماوردي رحمه الله تعالى: في " بحر العلوم" (3/ 166): «وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ يعني: أعطينا لداود سليمان. وروي عن ابن عباس أنه قال: أولادنا من مواهب الله عز وجل. ثم قرأ: {ويَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ} [الشورى: 49] فوهب الله تعالى لداود سليمان نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ يعني: مقبلاً إلى طاعة الله تعالى» اهـــ.
وقال العلامة الشوكاني رحمه الله تعالى: في "فتح القدير"(4/ 494): «{وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ بِأَنَّ مِنْ جُمْلَةِ نِعَمِهِ عَلَى دَاوُدَ أَنَّهُ وَهَبَ لَهُ سُلَيْمَانَ وَلَدًا..» اهـــ
وقال السعدي رحمه الله تعالى في "تفسيره" (ص: 712): «لما أثنى تعالى على داود، وذكر ما جرى له ومنه، أثنى على ابنه سليمان عليهما السلام فقال: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ} أي: أنعمنا به عليه، و أقررنا به عينه». اهــــ
*وقال تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا }. [نوح:10، 11، 12].
قال الإمام الطبري رحمه الله في «تفسيره» (23/ 633):«وقوله: {وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ} يقول: ويعطكم مع ذلك ربكم أموالا وبنين، فيكثرها عندكم ويزيد فيما عندكم منها {وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ} يقول: يرزقكم بساتين {وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} تسقون منها جناتكم ومزارعكم؛ وقال ذلك لهم نوح، لأنهم كانوا فيما ذُكر قوم يحبون الأموال والأولاد» اهــ
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله في "تفسيره" : (8/ 233):«إِذَا تُبْتُمْ إِلَى الله وَاسْتَغْفَرْتُمُوهُ وَأَطَعْتُمُوهُ، كَثُرَ الرِّزْقُ عَلَيْكُمْ، وَأَسْقَاكُمْ مِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاءِ، وَأَنْبَتَ لَكُمْ مِنْ بَرَكَاتِ الْأَرْضِ، وَأَنْبَتَ لَكُمُ الزَّرْعَ، وَأَدَرَّ لَكُمُ الضَّرْعَ، وَأَمَدَّكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ، أَيْ: أَعْطَاكُمُ الْأَمْوَالَ وَالْأَوْلَادَ، وَجَعَلَ لَكُمْ جَنَّاتٍ فِيهَا أَنْوَاعَ الثِّمَارِ، وَخَللها بِالْأَنْهَارِ الْجَارِيَةِ بَيْنَهَا.» اهـ
*وقال تعالى:{وَالله جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ الله هُمْ يَكْفُرُونَ} [النحل:72] »اهــ.
قال الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى في تفسيره" (17/ 258) بعد أن ذكر أقوالَا في معنى حفدة:  «والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله تعالى أخبر عباده معرفهم نعمه عليهم، فيما جعل لهم من الأزواج والبنين، فقال تعالى {وَالله جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً} فأعلمهم أنه جعل لهم من أزواجهم بنين وحفَدة....».اهـ
وقال القرطبي رحمه الله تعالى في "تفسيره" (10/ 125): «وَقَالَ:{ وَالله جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً } وَهَذَا غَايَةٌ فِي الِامْتِنَانِ» اهـ
وقال رحمه الله أيضًا (10/ 144): «وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: الْأَظْهَرُ عِنْدِي فِي قَوْلِهِ{بَنِينَ وَحَفَدَةً}أَنَّ الْبَنِينَ أَوْلَادُ الرَّجُلِ لِصُلْبِهِ وَالْحَفَدَةَ أَوْلَادُ وَلَدِهِ، وَلَيْسَ فِي قُوَّةِ اللَّفْظِ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا، وَيَكُونُ تَقْدِيرُ الْآيَةِ عَلَى هَذَا: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَمِنَ الْبَنِينِ حَفَدَةً. وَقَالَ مَعْنَاهُ الْحَسَنُ». اهــــ
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: (4/ 586): «يَذْكُرُ تَعَالَى نِعَمَهُ  عَلَى عَبِيدِهِ، بِأَنْ جَعَلَ لَهُمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ أَزْوَاجًا مِنْ جِنْسِهِمْ وَشِكْلِهِمْ [وَزِيِّهِمْ] ، وَلَوْ جَعَلَ الْأَزْوَاجَ مِنْ نَوْعٍ آخَرَ لَمَا حَصَلَ ائْتِلَافٌ وَمَوَدَّةٌ وَرَحْمَةٌ، وَلَكِنْ مِنْ رَحْمَتِهِ خَلَقَ مِنْ بَنِي آدَمَ ذُكُورًا وَإِنَاثًا، وَجَعَلَ الْإِنَاثَ أَزْوَاجًا لِلذُّكُورِ.
ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ جَعَلَ مِنَ الْأَزْوَاجِ الْبَنِينَ وَالْحَفَدَةَ، وَهُمْ أَوْلَادُ الْبَنِينَ..... قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا دَاخِلَةٌ فِي مَعْنَى: «الحَفْد» وَهُوَ الْخِدْمَةُ، الَّذِي مِنْهُ قَوْلُهُ فِي الْقُنُوتِ: «وَإِلَيْكَ نَسْعَى وَنَحْفِدُ»، وَلَمَّا كَانَتِ الْخِدْمَةُ قَدْ تَكُونُ مِنَ الْأَوْلَادِ وَالْأَصْهَارِ وَالْخَدَمِ فَالنِّعْمَةُ حَاصِلَةٌ بِهَذَا كُلِّهِ؛ وَلِهَذَا  قَالَ: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً} » اهــ
*وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً } [الرعد: 38].
قال العلامة السعدي في «تفسيره » (ص: 419): «أي: لست أول رسول أرسل إلى الناس حتى يستغربوا رسالتك، {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} فلا يعيبك أعداؤك بأن يكون لك أزواج وذرية، كما كان لإخوانك المرسلين، فلأي شيء يقدحون فيك بذلك وهم يعلمون أن الرسل قبلك كذلك؛ إلا لأجل أغراضهم الفاسدة وأهوائهم؟...» اهــ
 أقول : ربنا سبحانه يبين أن هذا  ليس من الأمور المعيبة، بل هو من النعم التي أنعم الله به على الأنبياء والمرسلين والصالحين قبلك أيضا يا محمد.
*وقال الله تعالى : { وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا } [المدثر: 12، 13].
قال ابن فورك رحمه الله في «تفسيره» (3 / 80):«معنى {وَبَنِينَ شُهُودًا}أي: وبنين بحضرته يستمتع بمشاهدته لهم، فإن متعته بحضورهم خلاف من هو غائب عنهم» اهــ.
قال الحافظ ابن  كثير رحمه الله  في «تفسيره»: «وَجَعَلَ لَهُ {وَبَنِينَ شُهُودًا} قَالَ مُجَاهِدٌ: لَا يَغِيبُونَ، أَيْ: حُضُورًا عِنْدَهُ لَا يُسَافِرُونَ فِي التِّجَارَاتِ، بَلْ مَواليهم وَأُجَرَاؤُهُمْ يَتَوَلَّوْنَ ذَلِكَ عَنْهُمْ وَهُمْ قُعُودٌ عِنْدَ أَبِيهِمْ، يَتَمَتَّعُ بِهِمْ ويتَمَلَّى بِهِمْ. وَكَانُوا -فِيمَا ذَكَرَهُ السُّدِّيُّ، وَأَبُو مَالِكٍ، وَعَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ-ثَلَاثَةَ عَشَرَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ: كَانُوا عَشْرَةً. وَهَذَا أَبْلَغُ فِي النِّعْمَةِ [وَهُوَ إِقَامَتُهُمْ عِنْدَهُ] .اهــ
قال العلامة السعدي رحمه الله نزلت في الوليد بن المغيرة، معاند الحق، والمبارز لله ولرسوله بالمحاربة والمشاقة، فذمه الله ذما لم يذمه غيره، وهذا جزاء كل من عاند الحق ونابذه، أن له الخزي في الدنيا، ولعذاب الآخرة أخزى، فقال: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} أي: خلقته منفردا، بلا مال ولا أهل، ولا غيره، فلم أزل أنميه وأربيه  ، {وَجَعَلْتُ لَهُ مَالا مَمْدُودًا} أي: كثيرا {و} جعلت له {بنين} أي: ذكورا {شُهُودًا} أي: دائما حاضرين عنده، [على الدوام] يتمتع بهم، ويقضي بهم حوائجه، ويستنصر بهم». اهــ
فإن قال قائل رب العالمين عز وجل يقول: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ الله عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 28].
ويقول تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَالله عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } [التغابن: 15].
أقول : لا تعارض بين هذا وبين أن الأولاد نعمة من الله.
قال الإمام القرطبي رحمه الله في «تفسيره » (11/ 80):« إِنْ قَالَ قَائِلٌ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الدُّعَاءِ بِالْوَلَدِ، وَالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَدْ حَذَّرَنَا مِنْ آفَاتِ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ، وَنَبَّهَ عَلَى الْمَفَاسِدِ النَّاشِئَةِ مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: {نَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن: 15].{ إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن: 14].
فَالْجَوَابُ: أَنَّ الدُّعَاءَ بِالْوَلَدِ مَعْلُومٌ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ حَسَبَ مَا تَقَدَّمَ فِي" آلِ عِمْرَانَ"  بَيَانُهُ. ثُمَّ إِنَّ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ تَحَرَّزَ فَقَالَ: {ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} وَقَالَ:{ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا}. وَالْوَلَدُ إِذَا كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ نَفَعَ أَبَوَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَخَرَجَ مِنْ حَدِّ الْعَدَاوَةِ وَالْفِتْنَةِ إِلَى حَدِّ الْمَسَرَّةِ وَالنِّعْمَةِ وَقَدْ دَعَا النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَسٍ خَادِمِهِ فَقَالَ: «اللهمَّ أَكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ وَبَارِكْ لَهُ فِيمَا أَعْطَيْتَهُ» فَدَعَا لَهُ بِالْبَرَكَةِ تَحَرُّزًا مِمَّا يُؤَدِّي إِلَيْهِ الْإِكْثَارُ مِنَ الْهَلَكَةِ. وَهَكَذَا فَلْيَتَضَرَّعِ الْعَبْدُ إِلَى مَوْلَاهُ فِي هِدَايَةِ وَلَدِهِ، وَنَجَاتِهِ فِي أُولَاهُ وَأُخْرَاهُ اقْتِدَاءً بِالْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ والسلام والفضلاء، [الأولياء ] وقد تقدم في" آل عمران"  بيانه» . اهــــ
ولقد بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما مات ولده إبراهيم
فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ الله عَنْهُ، قَالَ: دَخَلْنَا مَعَ رَسُولِ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَبِي سَيْفٍ القَيْنِ، وَكَانَ ظِئْرًا لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، فَأَخَذَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِبْرَاهِيمَ، فَقَبَّلَهُ، وَشَمَّهُ، ثُمَّ دَخَلْنَا عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِبْرَاهِيمُ يَجُودُ بِنَفْسِهِ، فَجَعَلَتْ عَيْنَا رَسُولِ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَذْرِفَانِ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رَضِيَ الله عَنْهُ: وَأَنْتَ يَا رَسُولَ الله؟ فَقَالَ: «يَا ابْنَ عَوْفٍ إِنَّهَا رَحْمَةٌ» ، ثُمَّ أَتْبَعَهَا بِأُخْرَى، فَقَالَ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ العَيْنَ تَدْمَعُ، وَالقَلْبَ يَحْزَنُ، وَلاَ نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَى رَبُّنَا، وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ » متفق عليه وهذا لفظ البخاري.
الولد مما ميز الله به خديجة رضي الله عنها على باقي نسائه صلى الله عليه وسلم.
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ الله عَنْهَا، قَالَتْ: مَا غِرْتُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ نِسَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ، وَمَا رَأَيْتُهَا، وَلَكِنْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ ذِكْرَهَا، وَرُبَّمَا ذَبَحَ الشَّاةَ ثُمَّ يُقَطِّعُهَا أَعْضَاءً، ثُمَّ يَبْعَثُهَا فِي صَدَائِقِ خَدِيجَةَ، فَرُبَّمَا قُلْتُ لَهُ: كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الدُّنْيَا امْرَأَةٌ إِلَّا خَدِيجَةُ، فَيَقُولُ «إِنَّهَا كَانَتْ، وَكَانَتْ، وَكَانَ لِي مِنْهَا وَلَدٌ» رواه البخاري رحمه الله

الحث على طلب الولد والترغيب في ذلك
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله "الفتاوى الكبرى" (5/ 449): «وَالْإِعْرَاضُ عَنْ الْأَهْلِ وَالْأَوْلَادِ لَيْسَ مِمَّا يُحِبُّهُ الله وَرَسُولُهُ وَلَا هُوَ دِينُ الْأَنْبِيَاءِ قَالَ الله تَعَالَى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} [الرعد: 38].» اهـــ
ومن الأدلة على الترغيب في ذلك:
*قوله تعالى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ الله لَكُمْ} [البقرة: 187]
قال الحافظ ابن جرير رحمه الله في «تفسيره»:(3 / 248) : «وَقَدْ يَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ: {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ الله لَكُمْ} [البقرة: 187] جَمِيعُ مَعَانِي الْخَيْرِ الْمَطْلُوبَةِ، غَيْرَ أَنَّ أَشْبَهَ الْمَعَانِي بِظَاهِرِ الْآيَةِ قَوْلُ مَنْ قَالَ مَعْنَاهُ: وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ الله لَكُمْ مِنَ الْوَلَدِ لِأَنَّهُ عُقَيْبُ قَوْلِهِ: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} [البقرة: 187] بِمَعْنَى: جَامِعُوهُنَّ؛ فَلَأَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ الله لَكُمْ} [البقرة: 187] بِمَعْنَى: وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ الله فِي مُبَاشَرَتِكُمْ إِيَّاهُنَّ مِنَ الْوُدِّ، وَالنَّسْلِ أَشْبَهُ بِالْآيَةِ مِنْ غَيْرِهِ مِنَ التَّأْوِيلَاتِ الَّتِي لَيْسَ عَلَى صِحَّتِهَا دَلَالَةٌ مِنْ ظَاهِرِ التَّنْزِيلِ، وَلَا خَبَرَ عَنِ الرَّسُولِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» اهــ
وقال العلامة الشنقيطي رحمه الله في « أضواء البيان (1 / 92) : «قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ الله لَكُمْ }لِأَنَّ الْمُرَادَ بِمَا كَتَبَ الله لَكُمُ الْوَلَدُ، عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ، وَقَدْ نَقَلَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَالْحَكَمِ وَعِكْرِمَةَ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَالسُّدِّيِّ، وَالرَّبِيعِ وَالضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ابْتِغَاءَ الْوَلَدِ إِنَّمَا هُوَ بِالْجِمَاعِ فِي الْقُبُلِ. فَالْقُبُلُ إِذَنْ هُوَ الْمَأْمُورُ بِالْمُبَاشَرَةِ فِيهِ بِمَعْنَى الْجِمَاعِ، فَيَكُونُ مَعْنَى الْآيَةِ {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} وَلْتَكُنْ تِلْكَ الْمُبَاشَرَةُ فِي مَحَلِّ ابْتِغَاءِ الْوَلَدِ، الَّذِي هُوَ الْقُبُلُ دُونَ غَيْرِهِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ الله لَكُمْ } ، يَعْنِي الْوَلَدَ »اهــ
وقال العلامة العثيمين  رحمه الله في «تفسير سورة البقرة»: (2 / 348) :« قوله تعالى: «{وابتغوا ما كتب الله لكم} أي اطلبوا ما قدر الله لكم من الولد؛ وذلك بالجماع الذي يحصل به الإنزال ».اهــ.
وعَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ رضي الله عنه ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: إِنِّي أَصَبْتُ امْرَأَةً ذَاتَ حَسَبٍ وَجَمَالٍ، وَإِنَّهَا لَا تَلِدُ، أَفَأَتَزَوَّجُهَا، قَالَ: «لَا» ثُمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَةَ فَنَهَاهُ، ثُمَّ أَتَاهُ الثَّالِثَةَ، فَقَالَ: «تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الْأُمَمَ» رواه أبوداود ، والنسائي، وحسن الإمام الألباني رحمه الله
في «حاشية السندي»(6 / 66) :« وَكَذَا معرفَة الْوَلُود أَي كثير الْولادَة يعرف بذلك فِي الْبكر وَاعْتِبَار كَونهَا ودودا مَعَ أَن الْمَطْلُوب كَثْرَة الْأَوْلَاد كَمَا يدل عَلَيْهِ التَّعْلِيل لِأَن الْمحبَّة هِيَ الْوَسِيلَة إِلَى مَا يكون سَببا للأولاد مُكَاثِر بكم أَي الْأَنْبِيَاء يَوْم الْقِيَامَة » اهــ

دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لبعض الصحابة بهذه النعمة
عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، قَالَ: دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْنَا وَمَا هُوَ إِلَّا أَنَا، وَأُمِّي، وَأُمُّ حَرَامٍ خَالَتِي، فَقَالَ: «قُومُوا فَلِأُصَلِّيَ بِكُمْ فِي غَيْرِ وَقْتِ صَلَاةٍ» ، فَصَلَّى بِنَا، فَقَالَ رَجُلٌ لِثَابِتٍ: أَيْنَ جَعَلَ أَنَسًا مِنْهُ؟ قَالَ: «جَعَلَهُ عَلَى يَمِينِهِ، ثُمَّ دَعَا لَنَا أَهْلَ الْبَيْتِ بِكُلِّ خَيْرٍ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» ، فَقَالَتْ أُمِّي: يَا رَسُولَ الله خُوَيْدِمُكَ ادْعُ الله لَهُ، قَالَ: «فَدَعَا لِي بِكُلِّ خَيْرٍ، وَكَانَ فِي آخِرِ مَا دَعَا لِي بِهِ» أَنْ قَالَ: «اللهمَّ أَكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ، وَبَارِكْ لَهُ فِيهِ» متفق عليه وهذا لفظ مسلم
وفي رواية عند مسلم رحمه الله «قَالَ أَنَسٌ رضي الله عنه :« فَوَ الله إِنَّ مَالِي لَكَثِيرٌ، وَإِنَّ وَلَدِي وَوَلَدَ وَلَدِي لَيَتَعَادُّونَ عَلَى نَحْوِ الْمِائَةِ، الْيَوْمَ».
قال النووي رحمه الله  في «شرح مسلم» (5 / 164) :«وَفِيهِ طَلَبُ الدُّعَاءِ مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ وَجَوَازُ الدُّعَاءِ بِكَثْرَةِ الْمَالِ وَالْوَلَدِ مَعَ الْبَرَكَةِ فِيهِمَا» اهــ
 وروى الإمام مسلم عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه ، قَالَ: مَاتَ ابْنٌ لِأَبِي طَلْحَةَ، مِنْ أُمِّ سُلَيْمٍ، فَقَالَتْ لِأَهْلِهَا: لَا تُحَدِّثُوا أَبَا طَلْحَةَ بِابْنِهِ حَتَّى أَكُونَ أَنَا أُحَدِّثُهُ قَالَ: فَجَاءَ فَقَرَّبَتْ إِلَيْهِ عَشَاءً، فَأَكَلَ وَشَرِبَ، فَقَالَ: ثُمَّ تَصَنَّعَتْ لَهُ أَحْسَنَ مَا كَانَ تَصَنَّعُ قَبْلَ ذَلِكَ، فَوَقَعَ بِهَا، فَلَمَّا رَأَتْ أَنَّهُ قَدْ شَبِعَ وَأَصَابَ مِنْهَا، قَالَتْ: يَا أَبَا طَلْحَةَ أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ قَوْمًا أَعَارُوا عَارِيَتَهُمْ أَهْلَ بَيْتٍ، فَطَلَبُوا عَارِيَتَهُمْ، أَلَهُمْ أَنْ يَمْنَعُوهُمْ؟ قَالَ: لَا، قَالَتْ: فَاحْتَسِبِ ابْنَكَ، قَالَ: فَغَضِبَ، وَقَالَ: تَرَكْتِنِي حَتَّى تَلَطَّخْتُ، ثُمَّ أَخْبَرْتِنِي بِابْنِي فَانْطَلَقَ حَتَّى أَتَى رَسُولَ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخْبَرَهُ بِمَا كَانَ، فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَارَكَ الله لَكُمَا فِي غَابِرِ لَيْلَتِكُمَا» قَالَ: فَحَمَلَتْ، قَالَ: فَكَانَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ وَهِيَ مَعَهُ، وَكَانَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذَا أَتَى الْمَدِينَةَ مِنْ سَفَرٍ، لَا يَطْرُقُهَا طُرُوقًا، فَدَنَوْا مِنَ الْمَدِينَةِ، فَضَرَبَهَا الْمَخَاضُ فَاحْتُبِسَ عَلَيْهَا أَبُو طَلْحَةَ، وَانْطَلَقَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: يَقُولُ أَبُو طَلْحَةَ: إِنَّكَ لَتَعْلَمُ، يَا رَبِّ إِنَّهُ يُعْجِبُنِي أَنْ أَخْرُجَ مَعَ رَسُولِكَ إِذَا خَرَجَ، وَأَدْخُلَ مَعَهُ إِذَا دَخَلَ، وَقَدِ احْتَبَسْتُ بِمَا تَرَى، قَالَ: تَقُولُ أُمُّ سُلَيْمٍ: يَا أَبَا طَلْحَةَ مَا أَجِدُ الَّذِي كُنْتُ أَجِدُ، انْطَلِقْ، فَانْطَلَقْنَا، قَالَ وَضَرَبَهَا الْمَخَاضُ حِينَ قَدِمَا، فَوَلَدَتْ غُلَامًا فَقَالَتْ لِي أُمِّي: يَا أَنَسُ لَا يُرْضِعُهُ أَحَدٌ حَتَّى تَغْدُوَ بِهِ عَلَى رَسُولِ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ احْتَمَلْتُهُ، فَانْطَلَقْتُ بِهِ إِلَى رَسُولِ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ فَصَادَفْتُهُ وَمَعَهُ مِيسَمٌ، فَلَمَّا رَآنِي قَالَ: «لَعَلَّ أُمَّ سُلَيْمٍ وَلَدَتْ؟» قُلْتُ: نَعَمْ، فَوَضَعَ الْمِيسَمَ، قَالَ: وَجِئْتُ بِهِ فَوَضَعْتُهُ فِي حِجْرِهِ، وَدَعَا رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَجْوَةٍ مِنْ عَجْوَةِ الْمَدِينَةِ، فَلَاكَهَا فِي فِيهِ حَتَّى ذَابَتْ، ثُمَّ قَذَفَهَا فِي فِيِّ الصَّبِيِّ، فَجَعَلَ الصَّبِيُّ يَتَلَمَّظُهَا، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «انْظُرُوا إِلَى حُبِّ الْأَنْصَارِ التَّمْرَ» قَالَ: فَمَسَحَ وَجْهَهُ وَسَمَّاهُ عَبْدَ الله » .
ورواه البخاري مختصرا وفيه: «قَالَ سُفْيَانُ: فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ: فَرَأَيْتُ لَهُمَا تِسْعَةَ أَوْلاَدٍ كُلُّهُمْ قَدْ قَرَأَ القُرْآنَ»
قال الحافظ في «فتح الباري »(3 / 171) :« قَوْلُهُ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ إِلَخْ هُوَ عَبَايَةُ بْنُ رِفَاعَةَ لِمَا أخرجه سعيد بن مَنْصُور ومسدد وبن سَعْدٍ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ كُلُّهُمْ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبَايَةَ بْنِ رِفَاعَةَ قَالَ كَانَتْ أُمُّ أَنَسٍ تَحْتَ أَبِي طَلْحَةَ فَذَكَرَ الْقِصَّةَ شَبِيهَةً بِسِيَاقِ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ وَقَالَ فِي آخِرِهِ فَوَلَدَتْ لَهُ غُلَامًا قَالَ عَبَايَةُ فَلَقَدْ رَأَيْتُ لِذَلِكَ الْغُلَامِ سَبْعَ بَنِينَ كُلَّهُمْ قَدْ خَتَمَ الْقُرْآنَ وَأَفَادَتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ أَنَّ فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ تَجَوُّزًا فِي قَوْلِهِ لَهُمَا لِأَنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّهُ مِنْ وَلَدِهِمَا بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ مِنْ أَوْلَادِ وَلَدِهِمَا الْمَدْعُوِّ لَهُ بِالْبَرَكَةِ وَهُوَ عَبْدُ الله بْنُ أَبِي طَلْحَةَ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ تِسْعَةٌ وَفِي هَذِهِ سَبْعَةٌ فَلَعَلَّ فِي أَحَدِهِمَا تَصْحِيفًا أَوِ الْمُرَادُ بِالسَّبْعَةِ مَنْ خَتَمَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ وَبِالتِّسْعَةِ مَنْ قَرَأَ مُعْظَمَهُ وَلَهُ مِنَ الْوَلَدِ فِيمَا ذكر بن سَعْدٍ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْأَنْسَابِ إِسْحَاقُ وَإِسْمَاعِيلُ وَعَبْدُ الله وَيَعْقُوبُ وَعُمَرُ وَالْقَاسِمُ وَعُمَارَةُ وَإِبْرَاهِيمُ وَعُمَيْرٌ وَزَيْدٌ وَمُحَمَّدٌ وَأَرْبَعٌ مِنَ الْبَنَاتِ» اهــ


هذه النعمة العظيمة طلبها الأنبياء والصالحون فأكرمهم الله بها
قال السيوطي في كتابه «الأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع»(1/164): «وقد طلب الأنبياء الأولاد، وتسبب الصالحون إلى وجودهم، ورب جماع حدث منه ولد صالح كالشافعي وأحمد كانا خيراً من عبادة ألف سنة »اهــ.
إبراهيم عليه الصلاة والسلام
*قال الله تعالى عن خليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام : {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ } [الصافات: 100، 101]
قال ابن جرير رحمه الله في «تفسيره» (19/ 577):« وَقَوْلُهُ: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات: 100].
وَهَذَا مَسْأَلَةُ إِبْرَاهِيمَ رَبَّهُ أَنْ يَرْزُقَهُ وَلَدًا صَالِحًا؛ يَقُولُ: قَالَ: يَا رَبِّ هَبْ لِي مِنْكَ وَلَدًا يَكُونُ مِنَ الصَّالِحِينَ الَّذِينَ يُطِيعُونَكَ، وَلَا يَعْصُونَكَ، وَيُصْلِحُونَ فِي الْأَرْضِ، وَلَا يُفْسِدُونَ »اهــــ
وقال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في «إغاثة اللهفان» (2/ 355): « السادس: أن إبراهيم - صلوات الله تعالى وسلامه عليه - سأل ربه الولد. فأجاب الله دعاءه، وبشره، فلما بلغ معه السعي أمره بذبحه. قال تعالى:{وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّى سَيَهْدِينِ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالحِينَ فَبَشّرْ نَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ} [الصافات: 99- 101] ، فهذا دليل على أن هذا الولد إنما بشر به بعد دعائه وسؤاله ربه أن يهب له ولدا». اهـــ
وقال العلامة محمد صديق خان رحمه الله في «فتح البيان في مقاصد القرآن» (3/ 138)« فهذا دليل أن هذا الولد إنما بشر به بعد دعائه وسؤاله ربه أن يهب له ولداً  ». اهــــ
*قال تعالى: { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ } [الأنبياء: 72].
قال الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله في« تفسيره» (16 / 316) :« حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} قَالَ: سَأَلَ وَاحِدًا فَقَالَ: رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ , فَأَعْطَاهُ وَاحِدًا، وَزَادَهُ يَعْقُوبَ , وَيَعْقُوبُ وَلَدُ وَلَدِهِ وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ عُنِيَ بِذَلِكَ إِسْحَاقُ وَيَعْقُوبُ. قَالُوا: وَإِنَّمَا مَعْنَى النَّافِلَةِ: الْعَطِيَّةُ، وَهُمَا جَمِيعًا مِنْ عَطَاءِ الله , أَعْطَاهُمَا إِيَّاهُ......
وقال (16 / 316) : حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، فِي قَوْلِهِ: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} قَالَ: عَطِيَّةً »اهــ
وقال الإمام البغوي رحمه الله في « تفسيره» (5 / 330) :«{وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} قَالَ مُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ: مَعْنَى النَّافِلَةِ الْعَطِيَّةُ وَهُمَا جَمِيعًا مِنْ عَطَاءِ الله نَافِلَةً يَعْنِي عَطَاءً، قَالَ الْحَسَنُ وَالضَّحَّاكُ: فَضْلًا. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَأَبِي زَيْدٍ وَقَتَادَةَ رَضِيَ الله عَنْهُمْ: النَّافِلَةُ هُوَ يَعْقُوبُ لِأَنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ أَعْطَاهُ إِسْحَاقَ بِدُعَائِهِ حَيْثُ قَالَ: {هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} (الصَّافَّاتِ: 100) ، وَزَادَ يَعْقُوبُ [وِلْدُ الْوَلَدِ] وَالنَّافِلَةُ الزِّيَادَةُ، {وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ} يَعْنِي: إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ. {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً} يُقْتَدَى بِهِمْ فِي الْخَيْرِ، {يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} يَدْعُونَ النَّاسَ إِلَى دِينِنَا» اهـ
*وقال تعالى مبشرا إبراهيم بالولد: {وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51) } إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53) قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ } [الحجر: 52 - 55]
قال الإمام الطبري رحمه الله تعالى في «تفسيره»: (14 / 84) :«الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ. قَالَ وَمَنْ يَقْنَطْ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر: 56] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قَالَ ضَيْفُ إِبْرَاهِيمَ لَهُ: بَشَّرْنَاكَ بِحَقٍّ يَقِينٍ، وَعِلْمٍ مِنَّا بِأَنَّ الله قَدْ وَهَبَ لَكَ غُلَامًا عَلِيمًا، فَلَا تَكُنْ مِنَ الَّذِينَ يَقْنَطُونَ مِنْ فَضْلِ الله فَيَيْأَسُونَ مِنْهُ، وَلَكِنْ أَبْشِرْ بِمَا بَشَّرْنَاكَ بِهِ وَاقْبَلِ الْبُشْرَى» اهــ.
وقال ابن كثير  رحمه الله في « البداية والنهاية» (1 / 186) :« وَكَذَلِكَ تَعَجَّبَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ اسْتِبْشَارًا بِهَذِهِ الْبِشَارَةِ وَتَثْبِيتًا لَهَا وَفَرَحًا بِهَا {قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ* قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ} [الحجر: 55 54] أَكَّدُوا الْخَبَرَ بِهَذِهِ الْبِشَارَةِ وَقَرَّرُوهُ معه فبشروهما {بَغُلامٍ عَلِيْم} [الحجر: 53] .
وهو إسحاق وَأَخُوهُ إِسْمَاعِيلُ غُلَامٌ حَلِيمٌ مُنَاسِبٌ لِمَقَامِهِ وَصَبْرِهِ وَهَكَذَا وَصَفَهُ رَبُّهُ بِصِدْقِ الْوَعْدِ وَالصَّبْرِ». اهــ
*وقال الله تعالى ذاكرَا فرح إبراهيم بالولد: {الْحَمْدُ لله الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ * رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ } [إبراهيم: 39، 40].
قال الإمام ابن جرير رحمه الله تعالى في «تفسيره» (17/ 27): « يَقُولُ: الْحَمْدُ لله الَّذِي رَزَقَنِي عَلَى كِبَرٍ مِنَ السِّنِّ وَلَدًا إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ {إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} [إبراهيم: 39] يَقُولُ: إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعٌ دُعَائِيَ الَّذِي أَدْعُوهُ بِهِ، وَقَوْلِي: {اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا، وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35] وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ دُعَائِي وَدُعَاءِ غَيْرِي، وَجَمِيعِ مَا نَطَقَ بِهِ نَاطِقٌ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُ شَيْءٌ » اهــــ
وقال الماوردي رحمه الله في «تفسيره» (6/ 405): «وقوله: {الْحَمْدُ لله الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} يكون حمده على الأمرين جميعًا: على الهبة؛ وعلى الولادة في حال الكبر؛ وهو حال الإياس؛ إذ كل واحد مما يوجب الحمد عليه والثناء ».اهــ
وقال الحافظ  ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» (4/ 514):« ثُمَّ حَمِدَ رَبَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، عَلَى مَا رَزَقَهُ مِنَ الْوَلَدِ بَعْدَ الْكِبَرِ، فَقَالَ: {الْحَمْدُ لله الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} أَيْ: إِنَّهُ لَيَسْتَجِيبُ لِمَنْ دَعَاهُ، وَقَدِ اسْتَجَابَ لِي فِيمَا سَأَلْتُهُ  مِنَ الْوَلَدِ». اهــ
*وقال تعالى عن بشارته لسارة زوجة إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود: 69 71].
قال الحافظ ابن جرير رحمه الله في «تفسيره»: (12 / 478) :« يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَبَشَّرْنَا سَارَةَ امْرَأَةَ إِبْرَاهِيمَ ثَوَابًا مِنَّا لَهَا عَلَى نَكِيرِهَا وَعَجَبِهَا مِنْ فِعْلِ قَوْمِ لُوطٍ بِإِسْحَاقَ وَلَدًا لَهَا. {وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} يَقُولُ: وَمِنْ خَلْفِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ مِنَ ابْنِهَا إِسْحَاقَ. وَالْوَرَاءُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: وَلَدُ الْوَلَدِ، وَكَذَلِكَ تَأَوَّلَهُ أَهْلُ التَّأْوِيلِ »اهــ.
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله في «تفسيره»:« وَهَذَا أَكْمَلُ فِي الْبِشَارَةِ، وَأَعْظَمُ فِي النِّعْمَةِ، وَقَالَ: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هُودٍ: 71] أَيْ: وَيُولَدُ لِهَذَا الْمَوْلُودِ وَلَدٌ فِي حَيَاتِكُمَا، فَتَقَرُّ أَعْيُنُكُمَا بِهِ كَمَا قَرَّتْ بِوَالِدِهِ، فَإِنَّ الْفَرَحَ بِوَلَدِ الْوَلَدِ شَدِيدٌ لِبَقَاءِ النَّسْلِ وَالْعَقِبِ، وَلَمَّا كَانَ وَلَدُ الشَّيْخِ وَالشَّيْخَةِ قَدْ يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ لَا يَعْقب لِضَعْفِهِ، وَقَعَتِ الْبِشَارَةُ بِهِ وَبِوَلَدِهِ بَاسِمِ "يَعْقُوبَ" »اهــ
قال العلامة الشنقيطي رحمه الله في «أضواء البيان»(2 / 185) :«{فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ}; لِأَنَّ الْبِشَارَةَ بِالذُّرِّيَّةِ الطَّيِّبَةِ شَامِلَةٌ لِلْأُمِّ وَالْأَبِ، كَمَا يَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ: وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ »اهــ

زكريا عليه الصلاة والسلام
*قال الله تعالى عن نبيه زكريا عليه الصلاة والسلام  : {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ * فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ الله يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ الله وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران: 38، 39].
قال ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى في «تفسيره» (6/ 359):« أَمَّا قَوْلُهُ: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ} [آل عمران: 38] فَمَعْنَاهُ: عِنْدَ ذَلِكَ، أَيْ عِنْدَ رُؤْيَةِ زَكَرِيَّا مَا رَأَى عِنْدَ مَرْيَمَ مِنْ رِزْقِ الله الَّذِي رَزَقَهَا، وَفَضْلِهِ الَّذِي آتَاهَا مِنْ غَيْرِ تَسَبُّبِ أَحَدٍ مِنَ الْآدَمَيِّينَ فِي ذَلِكَ لَهَا، وَمُعَايَنَتِهِ عِنْدَهَا الثَّمَرَةَ الرَّطْبَةَ الَّتِي لَا تَكُونُ فِي حِينِ رُؤْيَتِهِ إِيَّاهَا عِنْدَهَا فِي الْأَرْضِ، طَمِعَ فِي الْوَلَدِ مَعَ كِبَرِ سِنِّهِ مِنَ الْمَرْأَةِ الْعَاقِرِ، فَرَجَا أَنْ يَرْزَقْهُ الله مِنْهَا الْوَلَدَ مَعَ الْحَالِ الَّتِي هُمَا بِهَا، كَمَا رَزَقَ مَرْيَمَ عَلَى تَخَلِّيهَا مِنَ النَّاسِ مَا رَزَقَهَا مِنْ ثَمَرَةِ الصَّيْفِ فِي الشِّتَاءِ، وَثَمَرَةِ الشِّتَاءِ فِي الصَّيْفِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِثْلُهُ مِمَّا جَرَتْ بِوُجُودِهِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْحِينِ الْعَادَاتُ فِي الْأَرْضِ، بَلِ الْمَعْرُوفُ فِي النَّاسِ غَيْرُ ذَلِكَ، كَمَا أَنَّ وِلَادَةَ الْعَاقِرِ غَيْرُ الْأَمْرِ الْجَارِيَةِ بِهِ الْعَادَاتِ فِي النَّاسِ، فَرَغِبَ إِلَى الله جَلَّ ثناؤُهُ فِي الْوَلَدِ، وَسَأَلَهُ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً » اهـــ.
وقال الإمام البغوي رحمه الله في «تفسيره» (1/ 435):« قَالَ الله تَعَالَى: {هُنالِكَ}، أَيْ: عِنْدَ ذَلِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ، فدخل المحراب وغلّق الأبواب وَنَاجَى رَبَّهُ، قالَ رَبِّ، أَيْ: يَا رَبِّ، هَبْ لِي أَعْطِنِي مِنْ لَدُنْكَ، أَيْ: مِنْ عِنْدِكَ، ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً، أَيْ: وَلَدًا مُبَارَكًا تَقِيًّا صَالِحًا رَضِيًّا ..»اهــــ
وقال ابن كثير رحمه الله في« تفسيره »(2/ 37):« لَمَّا رَأَى زَكَرِيَّا، عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنَّ الله تَعَالَى يَرْزُقُ مَرْيَمَ، عَلَيْهَا السَّلَامُ، فَاكِهَةَ الشِّتَاءِ فِي الصَّيْفِ، وَفَاكِهَةَ الصَّيْفِ فِي الشِّتَاءِ، طَمِعَ حِينَئِذٍ فِي الْوَلَدِ، وَ [إِنْ] كَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ [ضَعُفَ وَ] وَهَن مِنْهُ  الْعَظْمُ، وَاشْتَعَلَ رَأْسُهُ شَيْبًا، وَإِنْ كَانَتِ امْرَأَتُهُ مَعَ ذَلِكَ كَبِيرَةً وَعَاقِرًا، لَكِنَّهُ مَعَ هَذَا كُلِّهِ سَأَلَ رَبَّهُ وَنَادَاهُ نِدَاءً خَفيا، وَقَالَ: {رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ} أَيْ: مِنْ عِنْدِكَ {ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} أَيْ: وَلَدًا صَالِحًا {إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ}  »اهـــ.
*وقال الله تعالى عنه: { فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6) يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا } [مريم: 5 - 7]
قال  الحافظ ابن جرير الطبري رحمه الله في تفسيره » (18/ 145):« وقوله {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا} يقول: فارزقني من عندك ولدا وارثا ومعينا». اهـــ
وقال القرطبي رحمه الله تعالى في «تفسيره»(11/ 79):« قَوْلُهُ تَعَالَى:{ فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا} سُؤَالٌ وَدُعَاءٌ. وَلَمْ يُصَرِّحْ بِوَلَدٍ لِمَا عَلِمَ مِنْ حَالِهِ وَبُعْدِهِ عَنْهُ بِسَبَبِ الْمَرْأَةِ. قَالَ قَتَادَةُ: جَرَى لَهُ هَذَا الْأَمْرُ وَهُوَ ابْنُ بِضْعٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً. مُقَاتِلٌ: خَمْسٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً، وَهُوَ أَشْبَهُ، فَقَدْ كَانَ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَا يُولَدُ لَهُ لِكِبَرِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ:{ وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا}......قَالَ الْعُلَمَاءُ: دُعَاءُ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْوَلَدِ إِنَّمَا كَانَ لِإِظْهَارِ دِينِهِ، وَإِحْيَاءِ نُبُوَّتِهِ، وَمُضَاعَفَةٍ لِأَجْرِهِ لَا لِلدُّنْيَا، وَكَانَ رَبُّهُ قَدْ عَوَّدَهُ الْإِجَابَةَ» اهــــ.
وقال الإمام الشنقيطي رحمه الله في «أضواء البيان» (3/ 365) :«وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا}، يَعْنِي بِهَذَا الْوَلِيِّ الْوَلَدَ خَاصَّةً دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْقِصَّةِ نَفْسِهَا{هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} الْآيَةَ  ، وَأَشَارَ إِلَى أَنَّهُ الْوَلَدُ أَيْضًا بِقَوْلِهِ: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} ، فَقَوْلُهُ {لَا تَذَرْنِي فَرَدًا} ، أَيْ: وَاحِدًا بِلَا وَلَدٍ» . اهـــــ
*وقال تعالى عن زكريا عليه الصلاة والسلام { وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * } [الأنبياء: 89، 90].
قال الإمام القرطبي رحمه الله تعالى  في «تفسيره» (11/ 336)«{رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْداً} أَيْ مُنْفَرِدًا لَا وَلَدَ لِي وَقَدْ تَقَدَّمَ. {وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ} أَيْ خَيْرُ مَنْ يَبْقَى بَعْدَ كُلِّ مَنْ يَمُوتُ، وَإِنَّمَا قَالَ{ وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ} لما تقدم من قوله:{ يَرِثُنِي} [مريم: 6] أَيْ أَعْلَمُ أَنَّكَ لَا تُضَيِّعُ دِينَكَ وَلَكِنْ لَا تَقْطَعْ هَذِهِ الْفَضِيلَةَ الَّتِي هِيَ الْقِيَامُ بِأَمْرِ الدِّينِ عَنْ عَقِبِي» اهــ
وقال الإمام ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» (5/ 370):« {رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا} أَيْ: لَا ولدَ لِي وَلَا وارثَ يَقُومُ بَعْدِي فِي النَّاسِ، {وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} دُعَاءٌ وَثَنَاءٌ مُنَاسِبٌ لِلْمَسْأَلَةِ ». اهـــ
وقال تعالى مبينا استجابته وبشارته بهذه النعمة لعبده زكريا:
{فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ } [الأنبياء: 90].

سليمان عليه الصلاة والسلام
وهكذا نبي الله سليمان عليه الصلاة السلام فقد «بوب البخاري في صحيحه» ( 6 / 41) بابا فقال:
»باب من طلب الولد للجهاد» ثم ذكر حديثا برقم ( 2819 ). ثم ذكر حديث أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عَنْهُ، قال قال  رَسُولِ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ: لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى مِائَةِ امْرَأَةٍ، أَوْ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ كُلُّهُنَّ، يَأْتِي بِفَارِسٍ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ الله، فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: إِنْ شَاءَ الله، فَلَمْ يَقُلْ إِنْ شَاءَ الله، فَلَمْ يَحْمِلْ مِنْهُنَّ إِلَّا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ، جَاءَتْ بِشِقِّ رَجُلٍ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْ قَالَ: إِنْ شَاءَ الله، لَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ الله، فُرْسَانًا أَجْمَعُونَ ». رواه البخاري رحمه الله
قال الحافظ ابن حجر في «الفتح » (6 / 34) :«(قَوْلُهُ بَابُ مَنْ طَلَبَ الْوَلَدَ لِلْجِهَادِ):أَيْ يَنْوِي عِنْدَ الْمُجَامَعَةِ حُصُولَ الْوَلَدِ لِيُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ الله فَيَحْصُلُ لَهُ بِذَلِكَ أَجْرٌ وَإِنْ لم يَقع ذَلِكَ» اهــ
*وقال الله عن الصالحين: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا } [الفرقان: 74].
قال الحافظ ابن جرير رحمه الله في «تفسير» (17 / 529) :« يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَالَّذِينَ يَرْغَبُونَ إِلَى الله فِي دُعَائِهِمْ وَمَسْأَلَتِهِمْ بِأَنْ يَقُولُوا: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا} [الفرقان: 74] مَا تَقَرُّ بِهِ أَعْيُنُنَا مِنْ أَنْ تُرِينَاهُمْ يَعْمَلُونَ بِطَاعَتِكَ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ» اهــ
وقال  الحافظ ابن كثير  رحمه الله في «البداية والنهاية »(11/ 116): «وَقَدْ بَلَغَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ سِنًّا عَالِيَةً وَكَانَ يَسْأَلُ الله وَلَدًا فَأَتَاهُ يَوْمًا إِنْسَانٌ فبشره بولد ذكر، فَرَفَعَ يَدَيْهِ فَحَمِدَ الله وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ:{ الْحَمْدُ لله الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إسماعيل}، فاستفاد الحاضرون من ذلك عدة فَوَائِدَ: مِنْهَا أَنَّهُ قَدْ وُلِدَ لَهُ عَلَى الكبر ولد ذكر بعد ما كان يسأل الله عز وجل، ومنها أنه سمي يَوْمَ مَوْلِدِهِ كَمَا سَمَّى رَسُولُ الله صَلَّى الله عليه وسلم ولده إبراهيم يوم مولده قبل السابع، ومنها اقتداؤه بالخليل أول ولد له بإسماعيل». اهـــ وراجع «طبقات الشافعية الكبرى » للسبكي (2/ 252).
وقال تقي الدين إبراهيم  العراقي رحمه الله في «المنتخب من كتاب السياق لتاريخ نيسابور» (ص: 154): «إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْغَافِرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْغَافِرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدٍ، أَبُو عَبْدِ الله الْفَارِسِيُّ الزَّكِيُّ الْعَدْلُ الرَّضِيُّ الثِّقَةُ شَيْخٌ مَرْضِيُّ الطَّرِيقَةِ نَقِيُّ السِّيرَةِ وَالسَّرِيرَةِ، مِنْ بَيْتِ الْعَدَالَةِ، كَانَ أَسْلافُهُ الْمُتَقَدِّمُونَ مِنْ رُؤَسَاءِ فَارِسَ بِبَلَدِهِ ... وُلِدَ فِي رَجَبٍ سَنَةَ ثَلاثٍ وَعِشْرِينَ وَأَرْبَعِ مِائَةٍ، وَكَانَ أَبُوهُ ابْنَ سَبْعِينَ سَنَةً قَدْ يَئِسَ أَنْ يُولَدَ لَهُ فَاسْتَبْشَرَ بِذَلِكَ، وَسَمَّاهُ إِسْمَاعِيلَ، تَيَمُّنًا بِالْخَلِيلِ إِذْ قَالَ: {الْحَمْدُ لله الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ} سورة [إبراهيم آية 39] »اهـــ.

هذه النعمة تحتاج إلى حافظ عليها
فإذا علم ما تقدم من أن الأولاد نعمة عظيمة، وقد جاء الحث عليها وطلبها، وأن الأنبياء والصالحون طلبوها من ربهم وألحوا على ربهم في ذلك، إذا علم ذلك لزم الحفاظ على هذه النعمة العظيمة، وأسباب الحفاظ عليها كثيرة جدا، ولكن من أحسنها وأنفعها وأجلها هو الدعاء للذرية بالخير والبركة والاستقامة، وهذا يتهاون فيه كثير من المسلمين، فالكثير لا يقصر مع أولاده وذريته، في المآكل والمشارب والملبس والسكن ويبذل في ذلك الشيء الكثير ، لكنه في هذه الحيثية تراه مقصرا تقصيرا كبيرا جدا، والموفق من رعى هذه الذرية وحافظ عليها، وأكثر من الدعاء لله بالصلاح والاستقامة والخير الدنيوي والأخروي، وأن الله يحفظ هذه الذرية من الشرور كلها، والحفاظ عليها من شياطين الإنس والجن.

 وقد جاءت الأدلة  التي تدل على فضل الدعاء للأولاد والذرية بالخير والصلاح والرشد
*قال الله تعالى {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ } [إبراهيم: 35 - 37].
قال السمعاني رحمه الله في «تفسيره »  (3 / 119) :« وَقَوله: {واجنبني وَبني أَن نعْبد الْأَصْنَام} مَعْنَاهُ: بعدني وَبني من عبَادَة الْأَصْنَام، فَإِن قَالَ قَائِل: قد كَانَ إِبْرَاهِيم مَعْصُوما عَن عبَادَة الْأَصْنَام، فَكيف يَسْتَقِيم سُؤَاله لنَفسِهِ، وَقد عبد كثير من بنيه الْأَصْنَام، فَأَيْنَ الْإِجَابَة؟
الْجَواب: أما فِي حق إِبْرَاهِيم، فالدعاء لزِيَادَة الْعِصْمَة والتثبيت، وَأما فِي حق الْبَنِينَ فَيُقَال: إِن الدُّعَاء لِبَنِيهِ من الصلب، وَلم يعبد أحد مِنْهُم الصَّنَم، وَقيل: إِن دعاءه لمن كَانَ مُؤمنا من بنيه». اهــ
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله في« تفسيره » (4 / 513) :«وَقَالَ: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأصْنَامَ} يَنْبَغِي لِكُلِّ دَاعٍ أَنْ يَدْعُوَ لِنَفْسِهِ وَلِوَالِدَيْهِ وَلِذُرِّيَّتِهِ» اهــ.
وقال العلامة ابن عثيمين رحمه الله في «تفسيره»  (2 / 64) :« ينبغي للإنسان أن يشمل ذريته في الدعاء؛ لأن الذرية الصالحة من آثار الإنسان الصالحة؛ لقوله تعالى: {ومن ذريتنا أمة مسلمة لك} ؛ وقال إبراهيم صلى الله عليه وسلم في آية أخرى: {واجنبني وبنيّ أن نعبد الأصنام} ؛ فالذرية صلاحها لها شأن كبير بالنسبة للإنسان »اهــ.
*وروى البخاري ومسلم عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ أَهْلَهُ، قَالَ: بِاسْمِ الله، اللهمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ، وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا، فَإِنَّهُ إِنْ يُقَدَّرْ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ فِي ذَلِكَ، لَمْ يَضُرَّهُ شَيْطَانٌ أَبَدًا ».
قال ابن بطال رحمه الله في  «شرح صحيح البخاري»(7/ 283):« قال المهلب: فيه أن الدعاء يصرف البلاء ويعتصم به من نزعات الشيطان وأذاه» اهــ
وقال العلامة الصنعاني رحمه الله في «التنوير شرح الجامع الصغير» (9/ 129)
« (لم يضره الشيطان أبداً) بل يعصم عنه في دينه ودنياه بسبب الاستعاذة وهذه بشرى عظيمة وفائدة جليلة ينبغي إعدادها لكل من أراد إتيان أهله وصلاح الأولاد من أعظم مسرات الفؤاد» اهــ
*وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: « ثَلَاثُ دَعَوَاتٍ مُسْتَجَابَاتٌ لَا شَكَّ فِيهِنَّ: دَعْوَةُ الْوَالِدِ، وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ، وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ » رواه أبو داود
*وجاء عند ابن ماجه بلفظ« ثَلَاثُ دَعَوَاتٍ يُسْتَجَابُ لَهُنَّ، لَا شَكَّ فِيهِنَّ: دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ، وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ، وَدَعْوَةُ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ ».
*وجاء عند الترمذي رحمه الله وَدَعْوَةُ الوَالِدِ عَلَى وَلَدِهِ». وحسن الحديث الشيخ الألباني رحمه الله تعالى
*وبوب البخاري رحمه الله في «الأدب المفرد»« باب دعوة الوالدين»
قال العظيم أبادي رحمه الله في « عون المعبود »(4 / 276) : «(ثَلَاثُ دَعَوَاتٍ) مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ (مُسْتَجَابَاتٌ لَا شَكَّ فِيهِنَّ) أَيْ فِي اسْتِجَابَتِهِنَّ وَهُوَ آكَدُ مِنْ حَدِيثِ ثَلَاثَةٌ لَا تُرَدُّ دَعْوَتُهُمْ وَإِنَّمَا آكَدَ بِهِ لِالْتِجَاءِ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ إِلَى الله تَعَالَى بِصِدْقِ الطَّلَبِ وَرِقَّةِ الْقَلْبِ وَانْكِسَارِ الْخَاطِرِ (دَعْوَةُ الْوَالِدِ) أَيْ لِوَلَدِهِ أَوْ عَلَيْهِ وَلَمْ يَذْكُرِ الْوَالِدَةَ لِأَنَّ حَقَّهَا أَكْثَرُ فَدُعَاؤُهَا أَوْلَى » اهــ
*وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «رَغِمَ أَنْفُ، ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُ، ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُ» ، قِيلَ: مَنْ؟ يَا رَسُولَ الله قَالَ: «مَنْ أَدْرَكَ أَبَوَيْهِ عِنْدَ الْكِبَرِ، أَحَدَهُمَا أَوْ كِلَيْهِمَا فَلَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ» رواه مسلم رحمه الله
 قال النووي «شرح النووي» (16 / 109) :« وَمَعْنَاهُ أَنَّ بِرَّهُمَا عِنْدَ كِبَرِهِمَا وَضَعْفِهِمَا بِالْخِدْمَةِ أَوِ النَّفَقَةِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ سَبَبٌ لِدُخُولِ الْجَنَّةِ فَمَنْ قَصَّرَ فِي ذَلِكَ فَاتَهُ دُخُولُ الْجَنَّةِ وأرغم الله انفه» اهــ
*وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «رَغِمَ أَنْفُ، ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُ، ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُ» ، قِيلَ: مَنْ؟ يَا رَسُولَ الله قَالَ: «مَنْ أَدْرَكَ أَبَوَيْهِ عِنْدَ الْكِبَرِ، أَحَدَهُمَا أَوْ كِلَيْهِمَا فَلَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ» رواه مسلم.

أقول: إذا كان هذا بسبب برهما ، فكيف إذا رضيا عن الولد، وكان من رضاهما عنه أن دعوا له بكل خير، فهذا سبيل الرشد والفلاح بإذن الله تعالى.

*وروى مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " لَمْ يَتَكَلَّمْ فِي الْمَهْدِ إِلَّا ثَلَاثَةٌ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَصَاحِبُ جُرَيْجٍ، وَكَانَ جُرَيْجٌ رَجُلًا عَابِدًا، فَاتَّخَذَ صَوْمَعَةً، فَكَانَ فِيهَا، فَأَتَتْهُ أُمُّهُ وَهُوَ يُصَلِّي، فَقَالَتْ: يَا جُرَيْجُ فَقَالَ: يَا رَبِّ أُمِّي وَصَلَاتِي، فَأَقْبَلَ عَلَى صَلَاتِهِ، فَانْصَرَفَتْ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ أَتَتْهُ وَهُوَ يُصَلِّي، فَقَالَتْ: يَا جُرَيْجُ فَقَالَ: يَا رَبِّ أُمِّي وَصَلَاتِي، فَأَقْبَلَ عَلَى صَلَاتِهِ، فَانْصَرَفَتْ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ أَتَتْهُ وَهُوَ يُصَلِّي فَقَالَتْ: يَا جُرَيْجُ فَقَالَ: أَيْ رَبِّ أُمِّي وَصَلَاتِي، فَأَقْبَلَ عَلَى صَلَاتِهِ، فَقَالَتْ: اللهمَّ لَا تُمِتْهُ حَتَّى يَنْظُرَ إِلَى وُجُوهِ الْمُومِسَاتِ، فَتَذَاكَرَ بَنُو إِسْرَائِيلَ جُرَيْجًا وَعِبَادَتَهُ وَكَانَتِ امْرَأَةٌ بَغِيٌّ يُتَمَثَّلُ بِحُسْنِهَا، فَقَالَتْ: إِنْ شِئْتُمْ لَأَفْتِنَنَّهُ لَكُمْ، قَالَ: فَتَعَرَّضَتْ لَهُ، فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهَا، فَأَتَتْ رَاعِيًا كَانَ يَأْوِي إِلَى صَوْمَعَتِهِ، فَأَمْكَنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا، فَوَقَعَ عَلَيْهَا فَحَمَلَتْ، فَلَمَّا وَلَدَتْ قَالَتْ: هُوَ مِنْ جُرَيْجٍ، فَأَتَوْهُ فَاسْتَنْزَلُوهُ وَهَدَمُوا صَوْمَعَتَهُ وَجَعَلُوا يَضْرِبُونَهُ فَقَالَ: مَا شَأْنُكُمْ؟ قَالُوا: زَنَيْتَ بِهَذِهِ الْبَغِيِّ، فَوَلَدَتْ مِنْكَ، فَقَالَ: أَيْنَ الصَّبِيُّ؟ فَجَاءُوا بِهِ، فَقَالَ: دَعُونِي حَتَّى أُصَلِّيَ، فَصَلَّى، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَتَى الصَّبِيَّ فَطَعَنَ فِي بَطْنِهِ، وَقَالَ: يَا غُلَامُ مَنْ أَبُوكَ؟ قَالَ: فُلَانٌ الرَّاعِي، قَالَ: فَأَقْبَلُوا عَلَى جُرَيْجٍ يُقَبِّلُونَهُ وَيَتَمَسَّحُونَ بِهِ، وَقَالُوا: نَبْنِي لَكَ صَوْمَعَتَكَ مِنْ ذَهَبٍ، قَالَ: لَا، أَعِيدُوهَا مِنْ طِينٍ كَمَا كَانَتْ، فَفَعَلُوا. وَبَيْنَا صَبِيٌّ يَرْضَعُ مِنْ أُمِّهِ، فَمَرَّ رَجُلٌ رَاكِبٌ عَلَى دَابَّةٍ فَارِهَةٍ، وَشَارَةٍ حَسَنَةٍ، فَقَالَتْ أُمُّهُ: اللهمَّ اجْعَلِ ابْنِي مِثْلَ هَذَا، فَتَرَكَ الثَّدْيَ وَأَقْبَلَ إِلَيْهِ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: اللهمَّ لَا تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى ثَدْيِهِ فَجَعَلَ يَرْتَضِعُ ". قَالَ: فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَحْكِي ارْتِضَاعَهُ بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ فِي فَمِهِ، فَجَعَلَ يَمُصُّهَا، قَالَ: " وَمَرُّوا بِجَارِيَةٍ وَهُمْ يَضْرِبُونَهَا وَيَقُولُونَ: زَنَيْتِ، سَرَقْتِ، وَهِيَ تَقُولُ: حَسْبِيَ الله وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، فَقَالَتْ أُمُّهُ: اللهمَّ لَا تَجْعَلِ ابْنِي مِثْلَهَا، فَتَرَكَ الرَّضَاعَ وَنَظَرَ إِلَيْهَا، فَقَالَ: اللهمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا، فَهُنَاكَ تَرَاجَعَا الْحَدِيثَ، فَقَالَتْ: حَلْقَى مَرَّ رَجُلٌ حَسَنُ الْهَيْئَةِ فَقُلْتُ: اللهمَّ اجْعَلِ ابْنِي مِثْلَهُ، فَقُلْتَ: اللهمَّ لَا تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ، وَمَرُّوا بِهَذِهِ الْأَمَةِ وَهُمْ يَضْرِبُونَهَا وَيَقُولُونَ زَنَيْتِ، سَرَقْتِ، فَقُلْتُ: اللهمَّ لَا تَجْعَلِ ابْنِي مِثْلَهَا فَقُلْتَ: اللهمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا، قَالَ: إِنَّ ذَاكَ الرَّجُلَ كَانَ جَبَّارًا، فَقُلْتُ: اللهمَّ لَا تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ، وَإِنَّ هَذِهِ يَقُولُونَ لَهَا زَنَيْتِ وَلَمْ تَزْنِ، وَسَرَقْتِ وَلَمْ تَسْرِقْ فَقُلْتُ: اللهمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا » الحديث متفق عليه وهذا لفظ مسلم
قال النووي رحمه الله  في «شرح مسلم» (16 / 108) :« وَفِي حَدِيثِ جُرَيْجٍ هَذَا فَوَائِدُ كَثِيرَةٌ مِنْهَا عِظَمُ بِرِّ الْوَالِدَيْنِ وَتَأَكُّدُ حَقِّ الْأُمِّ وَأَنَّ دُعَاءَهَا مُجَابٌ» اهــ
وقال العلامة العثيمين  في «شرح رياض الصالحين» (3 / 74) : «ويستفاد من هذه القطعة أن دعاء الوالد إذا كان بحق؛ فإنه حريّ بالإجابة، فدعاء الوالد على ولده إذا كان بحق؛ فهو حري أن يجيبه الله، ولهذا ينبغي لك أن تحترس غاية الاحتراس من دعاء الوالدين، حتى لا تعرض نفسك لقبول الله دعاءهما فتخسر». اهــ
أقول: في هذا الحديث أن الله استجاب لهذه الأم فقد دعت على ولدها بالشر ، فكيف إذا دعت له بالخير والصلاح فهذا من باب أولى.
قال محمد بن أحمد التميمي المغربي الإفريقي، أبو العرب في «طبقات علماء إفريقية» (ص: 37) : حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ سَلامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ يَحْيَى: أَنَّهُ مَا سَمِعَ شَيْئًا قَطُّ إِلا حَفِظَهُ، حَتَّى إِنَّهُ كَانَ إِذَا مَرَّ بِمَنْ يَتَغَنَّى، يَسُدُّ أُذُنَيْهِ لِئَلا يَسْمَعَهُ فَيَحْفَظَهُ، وَكَانَ مِنْ خِيَارِ خَلْقِ الله، وَدَعَا بِثَلاثِ دَعَوَاتٍ اسْتُجِيبَتْ لَهُ: دَعَا الله أَنْ يَقْضِيَ عَنْهُ الدَّيْنَ فَقُضِيَ دَيْنُهُ، وَدَعَا أَنْ يُوَرِّثَ وَلَدَهُ الْعِلْمَ فَكَانَ كَمَا دَعَا، وَدَعَا الله أَنْ يَكُونَ قَبْرُهُ بِمُقَطَّمِ مِصْرَ فَفَعَلَ.
أقول : محمد روى عنه ابنه يحيى بن محمد، والحسن بن علي بن الأشعث المصري، والحسن بن محمد القلانسي، وغيرهم. قال أبو العرب التميمي: «ثقة نبيل» اهــ من «التذييل على كتب الجرح والتعديل» (1/ 294). ولم أقف على يحيى ولد محمد هذا.
*وروى مسلم رحمه الله عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال أن النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: « دَعْوَةُ الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ لِأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ مُسْتَجَابَةٌ، عِنْدَ رَأْسِهِ مَلَكٌ مُوَكَّلٌ كُلَّمَا دَعَا لِأَخِيهِ بِخَيْرٍ، قَالَ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِهِ: آمِينَ وَلَكَ بِمِثْلٍ ».
قال النووي رحمه الله في «شرح مسلم» (17 / 49) :«وفى هذا فضل الدعاء لأخيه المسلم بظهر الغيب ولو دعا لجماعة من المسلمين حصلت هَذِهِ الْفَضِيلَةُ وَلَوْ دَعَا لِجُمْلَةِ الْمُسْلِمِينَ فَالظَّاهِرُ حُصُولُهَا أَيْضًا وَكَانَ بَعْضُ السَّلَفِ إِذَا أَرَادَ أن يدعو لنفسه يدعو لأخيه الْمُسْلِمِ بِتِلْكَ الدَّعْوَةِ لِأَنَّهَا تُسْتَجَابُ وَيَحْصُلُ لَهُ مِثْلُهَا قَوْلُهُ» اهـ ويدخل في هذا الولد من باب أولى {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ الله} [الأنفال: 75].


أخي المسلم إذا غفلت عن الدعاء لأولادك بالخير فلا تدعو عليهم بالشر فهذا خطير جدا

 وقد جاء النهي عن الدعاء على الأولاد
روى مسلم في صحيحه عن جابر رضي الله عنه قال قال رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم: « لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَوْلَادِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ، لَا تُوَافِقُوا مِنَ الله سَاعَةً يُسْأَلُ فِيهَا عَطَاءٌ، فَيَسْتَجِيبُ لَكُمْ».
قال الحافظ ابن رجب في «جامع العلوم والحكم » (1/ 373):« فَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ دُعَاءَ الْغَضْبَانِ قَدْ يُجَابُ إِذَا صَادَفَ سَاعَةَ إِجَابَةٍ، وَأَنَّهُ يُنْهَى عَنِ الدُّعَاءِ عَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَمَالِهِ فِي الْغَضَبِ. وَأَمَّا مَا قَالَهُ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ يُعَجِّلُ الله لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} [يونس: 11] [يُونُسَ: 11] ، قَالَ: هُوَ الْوَاصِلُ لِأَهْلِهِ وَوَلَدِهِ وَمَالِهِ إِذَا غَضِبَ عَلَيْهِ، قَالَ: اللهمَّ لَا تُبَارِكْ فِيهِ، اللهمَّ الْعَنْهُ، يَقُولُ: لَوْ عُجِّلَ لَهُ ذَلِكَ، لَأَهْلَكَ مَنْ دَعَا عَلَيْهِ، فَأَمَاتَهُ. فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُسْتَجَابُ جَمِيعُ مَا يَدْعُو بِهِ الْغَضْبَانُ عَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَمَالِهِ، وَالْحَدِيثُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ يُسْتَجَابُ لِمُصَادَفَتِهِ سَاعَةَ إِجَابَةٍ ».اهــ
وقال صاحب «عون المعبود» (4/ 275):« سُوءٍ (عَلَى أَنْفُسِكُمْ) أَيْ بِالْهَلَاكِ وَمِثْلِهِ (وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَوْلَادِكُمْ) أَيْ بِالْعَمَى وَنَحْوِهِ (وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ) أَيْ مِنَ الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ بِالْمَوْتِ وَغَيْرِهِ (لَا تُوَافِقُوا) نَهْيٌ لِلدَّاعِي وَعِلَّةُ النَّهْيِ أَيْ لَا تَدْعُوا عَلَى مَنْ ذُكِرَ لِئَلَّا تُوَافِقُوا (مِنَ الله سَاعَةَ نَيْلٍ) أَيْ عَطَاءٍ (فِيهَا عَطَاءٌ فَيَسْتَجِيبُ لَكُمْ) أَيْ لِئَلَّا تُصَادِفُوا سَاعَةَ إِجَابَةٍ وَنَيْلٍ فَتُسْتَجَابَ دَعَوْتُكُمُ السُّوءُ» اهــ
 وفي فتاوى اللجنة الدائمة - 1 (24/ 224)  ذكر قصة واقعية: الفتوى رقم (7420)
س: كان لي طفل عمره ثلاث سنوات، وقد كان كغيره من الأطفال، يميل إلى العبث والشغب، وفي أحد الأيام وكان الوقت ظهرا طلب من أمه الطعام، فأطعمته حتى شبع، وتركت بين يديه بعض الخبز، بناء على رغبته، وذهبت لأعمالها المنزلية، وبعد ساعة تقريبا عادت فوجدت ولدها المذكور قد فتت الخبز على الأرض والفراش، فغضبت منه ودعت عليه قائلة: (أرجو من الله أن تموت وأن لا تأكل غيره) فهرب الولد إلى منزل جدته وهي نظفت المكان وعادت إلى أعمالها المنزلية، وبعد قليل مات الولد فعلا رحمه الله، والآن يا سماحة الشيخ عبد العزيز إن أمه ضميرها تعبان ومريضة وضميرها يؤنبها على ما حصل، وتريد من فضيلتكم أن تفتوها على ما قالته من كلمات بحق ولدها، والذي حصل فعلا أفيدونا رحمكم الله.
ج: ينبغي الدعاء للأولاد بالهداية، وسؤال الخير لهم، ولا يجوز الدعاء عليهم، ففي حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على خدمكم، ولا تدعوا على أموالكم؛ لا توافقوا الله عز وجل ساعة نيل فيها عطاء فيستجيب لكم  » أخرجه أبو داود. وعلى هذه المرأة أن تكثر من الاستغفار، ولا تعود لمثل ذلك، وليس عليها دية ولا كفارة. وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز» اهــ
أخيرا:
تبين مما تقدم بيان المقصود في بيان هذه النعمة، وأن الدعاء لها من أعظم الأسباب للحافظ عليها، وأن الدعاء عليها يضرها ويفسدها، نسأل الله أن يصلح أبناءنا وأبناء المسلمين، وأن يرزقنا وإياهم  الذرية الصالحة الطيبة المباركة.
والحمد لله رب العالمين
كان الانتهاء منه يوم الأربعاء
3 من ربيع الثاني 1437 هجرية
مكة المكرمة حرسها الله
أبو حمزة محمد بن حسن السِّوري

وفقه الله لكل خير

حمل المقال بصيغة بي دي اف

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.